للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإعلان الرسمي للعلمانية]

الثورة الصناعية هي عبارة عن تحول اجتماعي كبير، نشأ بظهور الآلة واستخدامها، وأدى إلى تحولات وفجوات وخلخلة كبيرة جداً في التاريخ الأوروبي، وهذه الفجوات وهذه الخلخلة أدت إلى نجاح الأفكار التي كان العلم يدعو إليها قديماً، والثورة الفرنسية هي التي أوجدت أول ثورة علمانية بالمفهوم المعاصر للعلمانية، وإلا فالشرك قائم وقد وقع منذ قوم نوح عليه السلام، لكن بالمفهوم الذي يردد الآن أن أول دولة علمانية كانت فرنسا وذلك بالثورة الفرنسية، وخرجت الجماهير تهتف وتصرخ وتقول: 'اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس' أي تدلل على الاقتران والتعاون على الظلم الذي حصل بين رجال الدين وبين الأباطرة، ورجال الدين كانوا أشداء حتى على الملوك، وقضاياهم في التاريخ معروفة ومنهم - أي: الملوك- من ذهبوا إلى البابا يستعطفونه، ومشوا على الحجارة أياماً وليالي، ووقفوا لابسي الخيش في البرد الشديد، يستعطفون البابا ليرحمهم، لكنه الاستغلال الذي كانت تمارسه الكنيسة، فقد غيرت دين الناس وحولتهم من دين إلى بدع، وغيرت الملوك، وحرقت العلماء، ودمرت الحياة تدميراً كاملاً، وأخذت العشور من الناس، بل وأكثر من العشور في كل ما يزرعونه وما ينتجونه، ومن جهة أخرى كان كل ما يمكن أن يرتكب من الموبقات فعله رجال الدين، فالثورة الفرنسية خرجت وهتفت باسم هذا المبدأ، وأعلنت أنها دولة لا دينية وأن الجميع فيها سواسية فلا دين ولا غيره يفرقهم، وكان اليهود هم الأكبر ربحاً من هذه القضية.

وكان عند رجال الدين أن أي شيء يخالف الوحي فهو خرافة، فخرافة دارون هذه جاءت نتيجة -كما ذكرنا- ما قاله نيوتن، وهي أن دارون جاء بنظرية ميكانيكية عن الكون، فهل نستطيع أن نأتي بنظرية ميكانيكية عن الإنسان؟ قد يقول قائل: نيوتن فسر كيفية أن الأجرام تتناسق في السماء، ولا يمنع أن يكون الذي جعلها على هذه الكيفية هو الله، فلماذا لم يقل النصارى: إن الله خلق الإنسان كما أراد، لكن عملية خلق الحيوانات جميعاً أو السجل الجيولوجي كله من أوله إلى آخره، أراد الله أن يكون الخلق متطوراً بهذا الشكل -مثلاً- في داخل نطاق النظرة الأوربية، لِمَ لَمْ يحصل هذا؟ نأتي هنا إلى قضية هامة وهي أن في الإسلام، أن آدم عليه السلام أول الخلق، وأن جميع الأنبياء هم من ذريته، ولا إشكال في هذا الموضوع، لكن عند الكنيسة هذه القضية خطيرة جداً، لماذا؟ لأن الدين النصراني عندهم فقط قضية الصلب والفداء التي سببها خطيئة آدم، والخطيئة أنه أكل من الشجرة، ولكن الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- ضحى بابنه الوحيد ليكفر عن الجنس الذكري من هذه الخطيئة، فأنزل ابنه وقتل -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- لكن إذا قلنا كما تقوله نظرية دارون: أن الإنسان تطور تطوراً طبيعياً، وظهر ووجد بشكل تلقائي من الخلية إلى الكائنات العضوية واللافقاريات إلى القرد إلى شكل إنسان، كما تقول النظرية حلقة مقطوعة، كان الإنسان على هذا الكلام ليس هناك آدم، وإذا لم يكن هناك آدم فالمصيبة أنه إذاً: ليس هناك خطيئة، وليس هناك صلب، وليس هناك فداء.

إذاً: فمن حق الكنيسة -من وجهة نظرها- أن تستميت الاستماتة الكاملة في دفع النظرية -نظرية دارون - لأنها تهدم بها المسيحية هدماً تاماً، فإن الاعتقاد بأنه لم يوجد آدم معناه أنه لا يوجد مسيح ولا يوجد صلب ولا يوجد فداء، إذاً: ما بقي من الدين -دين النصارى- شيء.

فترتب على هذا أن الكنيسة قاومت نظرية دارون مقاومة شديدة، وجاء الصحفيون والهدامون والعلمانيون من كل ناحية، وأشاعوا نظريته بشكل رهيب لم يحلم به دارون، وربما لم يخطر له على بال، والعجيب أن لامارك وبوتيه وعدة علماء أو باحثين -كما يسمون- حاول كل واحد منهم أن يأتي بنظرية قريبة من نظرية دارون أو مؤدية إلى نظريته إلا أنه لم يكتب لها الشيوع، لأنهم أشاروا أو ذكروا أن الله اقتضت حكمته هكذا حتى لا يفاجئوا أن يصدمهم المجتمع أو تصدمهم الكنيسة.

ونظرية التطور اعتنقتها أوروبا وعممتها على كافة الحياة؛ لأنها استندت على فكرة التطور العلمي، التي جاء بها أوجوف كوم قبل دارون بأكثر من ستين سنة، في مطلع القرن التاسع عشر، جاء وقال: ' إن العلم البشري مر بثلاثة مراحل: مرحلة الخرافة والشعر، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم'.

هذا التطور إذا نظرنا إليه بالنظرة المنطقية، وجدنا أنه: بدأ بمرحلة الحيوان، ثم مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم، فهذا التطور الفكري الذي تخيله أوجوف كوم، أصبح حقيقة دعمتها التجربة ودعمها المعهد، ونعرف جميعاً ماركس كيف ركب نظرية المادية من نظرية التطور لدارون وقال: بأن المجتمع يتطور من خلال مراحل الاستكش -المراحل الخمس- الشيوعية.

والشاهد أن الديمقراطية والإنسانية ونظريات علم النفس ونظريات الاجتماع كلها ركبت على هذه الخرافة، ومن هذا أن التجارب تجري على الكلاب وعلى القرود وعلى الفئران وعلى أي حيوان، ويراد أن يفعلَ بالإنسان ما طبق على الفأر أو القرد أو الضفدعة! هكذا وصل الأمر إلى انهيار معنى الإنسانية، وهبوط هذا المعنى، وظهرت الديمقراطية نتيجة للاحتكاك الذين أحدثته الثورة الصناعية وهذه الأفكار، ونحِّي الدين تنحية كاملة، ونحيت النفس الإنسانية، وأقيمت الدولة العلمانية على منهج بشري، أي: على منهج الهوى والخرافة كما قلنا.