للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صفات الجنة وأهلها]

أما ذلك العبد الصالح -وأسأل الله أن يهديك لتكون صالحاً- الذي إن أذن المؤذن لصلاة الفجر وقال: الصلاة خيرٌ من النوم، وثب من فراشه وذهب إلى الصلاة وصلى وذكر الله.

ذلك العبد الصالح لو كانت عنده من الأعمال ما عنده واستمع إلى (حي على الصلاة) رمى كل ما في يديه، ثم ذهب إلى المسجد يؤدي فريضة الله.

ذلك العبد الصالح الذي إن جلس لوحده في البيت واختلى بمعصية من معاصي الله اتقى الله وصد وابتعد عن معاصي الله.

ذلك العبد الصالح الذي إن جلس في مجلس يدار فيه منكر أنكره فإن لم يستطع خرج من ذلك المجلس.

ذلك العبد الصالح ما تسمع منه إلا كل خير، إن نطق فبذكر الله، أو بغير معصية الله، ذلك العبد الصالح الذي أشغلته طاعة الله، وأشغلته محبة الله، ملأت قلبه طاعة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، ذلك العبد الصالح ما مصيره؟

يقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله تبارك وتعالى له -وادع الله أن تكون من أولئك-: (عبدي أتذكر ذنب كذا؟ -ومن من الناس لا يعصي الله- أتذكر ذنب كذا؟ فيقول: أي ربي هلكت، فيقول الله عز وجل له -لأنه تاب منها في الدنيا- سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يأخذ صحيفته بيمينه فيولي إلى الناس فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:١٩ - ٢٠]).

أيها الناس: في المحشر، {اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:١٩] ماذا تجدون؟ إنها الصلاة، وذكر الله، والصدقة، والدعاء، والصيام، والعمرة، والجهاد.

ماذا ترون؟ كل خير، إنها التوبة والاستغفار، إنه التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار.

ماذا ترون؟ صلاة الضحى، وصلاة الوتر، والرواتب، والسنن، والنوافل.

ماذا ترون؟ الدعوة إلى الله، وطلب العلم ونشره.

ماذا ترون؟ {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:١٩].

ثم يجتمع مع أصحابه في المحشر فيقول الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:٧٣] يجتمعون على أبواب الجنة، ماذا ينظرون؟ بل ماذا ينتظرون؟ ينتظرون نبيهم أفضل البشر يخرج من بينهم، ليفتح لهم باب الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب وما يدريك لعلك تكون منهم؟ ما يدريك لعلك تكون من أول زمرة وأول فوجٍ يدخل الجنة؟

يأتي أفضلهم إلى باب الجنة وله حلقة فيأخذ بها ويطرق باب الجنة، والناس ينتظرون، إنهم يتشوقون، إنهم يتلهفون، إن ريحها تخرج منها من مسيرة سنوات طوال، ينظرون يريدون أن يدخلوها، فيفتح فيستفتح فيقول له الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، فيقول الملك: أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك، فتفتح أبوابها، الله أكبر! ثم ماذا ترى؟

ترى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:٣٨ - ٣٩] وجوه مستبشرة، ضاحكة فرحة، فإذا بباب الجنة يفتح، وإذا بالملائكة تنادي بالأسماء: أين فلان ليأتي من باب الريان؟ لأنه أكثر من الصيام أين فلان ليأتي من باب الصلاة؟ لأنه أكثر من الصلاة، وذاك أكثر من الصدقة، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الصدقة؟ وذاك جاهد في سبيل الله، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الجهاد؟ وبعضهم ينادى من بابين، الله أكبر! يختار أي البابين يدخل، وبعضهم من ثلاثة، وبعضهم من أربعة، وبعضهم من ينادى من أبواب الجنة كلها؟ أين فلان ليدخل من هذا الباب؟ أتعرف؟ أسمعت أن: (ما بين مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين عاماً) تمشي من الطرف الأول للباب فلا تصل إلى الطرف الثاني إلا بعد أربعين عاماً وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكضيض، مزدحم بالناس، تخيل نفسك وقد أمر بك إلى الجنة، وأتيت إلى بابها، ووطأت قدماً فيها، فماذا ترى؟

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:٢٠] تنسى هموم الدنيا كلها، أين تعب الصلاة؟ أم أين تعب الجهاد؟ أم أين تعب الصيام؟ والصدقة والنفقة؟ أين التعب كله؟ ذهب، بقيت الآن اللذة والسعادة، يدخل بقدم لا يأمن العقوبة، فإذا دخلت القدم الأخرى ودخل الجنة ماذا يرى؟!

أما الأرض فبيضاء، أما إذا نظر إلى العلو فليس فيها شمس، كيف يرى الناس، أم كيف ينظرون؟ يأتي نورٌ من قبل عرش الرحمن، فيفيض على أهل الجنة نوراً.

يدخلون الجنة فإذا الأرض بيضاء، تحت رجله ماذا يرى؟ حصباؤها اللؤلؤ، الياقوت، والزعفران تحت رجله يطأها بقدميه، يدخل في الجنة إلى أين يذهب؟ هل يعرف منزله؟ يعرف منزله أفضل مما كان يعرف منزله في الدنيا، يركض إلى منزله وقصره في الجنة، أتظنه كقصور الدنيا؟ لا.

لبنة من فضة، والأخرى من ذهب، ثم من فضة، والأخرى من ذهب، وتخيل منظرها ليس كذهب الدنيا ولا كفضة الدنيا.

يمر في الطريق ماذا يرى؟ يرى أنهاراً {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:١٥] أتحسب أن أنهار الجنة أخاديد كالدنيا؟ لا، إن نهر الجنة يسكب على الجنة سكباً {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:٣١] لا يجري في أخاديد بل يجري على الجنة هكذا، نهر من ماء غير آسن لا يتغير طعمه {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ} [محمد:١٥] الله أكبر! هل لك أن تتصور نهراً من لبن؟ يجري ذلك النهر، وإذا أردت أن تشرب فاشرب، إذا أردت أن تغرف منه فاغرف منه ما شئت فإن هذا اللبن لا يتغير طعمه.

ثم {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:١٥] يا من استبدل خمر الجنة بخمر الدنيا، يا من استبدل الحلال بالحرام، أذكرك وأخبرك أن في الجنة يجري الخمر فيها جرياً، لذة للشاربين، {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:١٩] يشربون من خمر الجنة ما شاءوا، أتستطيع أن تتخيل هذا؟

بل أزيدك نهراً رابعاً {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:١٥] هل تتخيل نهراً من عسل يجري؟ الله أكبر! الله أكبر! {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١].

ثم يذهب إلى قصره فيرى عند القصر خيمة من لؤلؤة مجوفة، أتظنها كهذه الحجرة؟

لا.

بل طولها في السماء ستون ميلاً، هل تظن أنك ترى آخرها؟ يدخلها صاحبها فإذا به يرى فيها أهلون، أتعرف صفتهم؟ أتعرف صفة زوجته؟ يعطى قوة مائة رجل، يجامع في اليوم الواحد مائة مرة ولا يتعب.

قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين السماء والأرض- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -خمارها على رأسها- خيرٌ من الدنيا وما فيها) {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:٣٥] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:٣٦] مهما تطأهن فإنهن أبكارا {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:٣٧] متحببات لأزواجهن متساويات في الأعمار {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:٣٧] لمن؟ {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:٣٨] لأصحاب الصلاة، والصيام، وذكر الله، وقيام الليل، والجهاد في سبيل الله، ودين الله {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:٣٨ - ٤٠] إذا رأيت ساقها -وسوف أخبرك عن ساقها بلا حياء؛ لأنه أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام- ترى مخ ساقها من وراء اللحم، ما أرقه، وما ألطفه، وما أنعمه، ترى العظم من وراء اللحم، أتظن كيف يكون شكلها؟ أم كيف يكون جمالها؟

يروى: أنه يجامع الحور فإذا به في لحظة يبزغ نورٌ عظيمٌ من فوقه يظن أنه الرحمن، فيقول: ما هذا؟ فتقول له امرأة وتنظر إليه فتقول: أما كان لنا فيك دولة؟ أي: أما اكتفيت بهذه فتأتي إلينا فتجامعنا، فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:٣٥] فيجامعها فإذا به بعد لحظات يبزغ نورٌ عظيم فيقول: ما هذا؟ فتقول امرأةٌ ثالثة: أما كان لنا فيك دولة؟ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧] على فرش من حرير، يلبسون الحرير، ينامون على الفرش، ويتكئون عليها، خدمهم كاللؤلؤ المنثور، ينامون على الأرائك.

يشتهي ثمار الجنة، وفاكهة مما يتخيرون، لا يقوم من مكانه ليقطف الثمار، بل تأتي الثمار إليه {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:١٤] تأتي الثمار فيقطفها، كُلْ ما شئت، واشرب ما شئت، وتمتع بما شئت، ثم وهو في ذلك النعيم يأتيهم منادىٍ فيقول: يا أهل الجنة! تريدون شيئاً أزيدكم؟ تريدون نعيماً غير هذا؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ فيكشف ربنا عن الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وينسون به نعيم الجنة كله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣].