للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال العبد عند الموت]

باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

فلقد مر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على مقبرة بعد أن صلى بالناس صلاة العيد، فبعد أن مر على المقبرة قال لمن حوله: امكثوا، وكان معه الوزراء والأصحاب، فذهب إلى المقبرة، وأخذ ينظر إلى القبور، فقال قولته المشهورة:

رأيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر

تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك في ما مضى معتبر

ثم سقط على ركبته، وأخذ ينادي: يأيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ وأخذ يبكي رحمه الله.

أتذكر فلاناً كان صاحباً وقريباً لك في يوم من الأيام، كان يلعب معنا، ويجلس معنا، ويدرس معنا، وفي العمل معنا أين هو الآن؟ أين ذهب؟

يوم من الأيام فتحت الجريدة فإذا اسم فلان صاحب لك قد توفي وفارق الحياة سبحان الله! وإذا رجل اتصل عليك ذاك اليوم فرفعت السماعة وكلمته، فقال: أتعرف فلاناً؟ فقلت: كيف لا أعرفه وقد كنت قبل أيام معه.

قال: إنه قد ذهب وفارق الدنيا سبحان الله!

ماذا كان يعمل، وبم كان يحلم؟ كان يحلم أن يدرس ويحصل على الشهادة كان يحلم بالزواج وإنجاب الأبناء كان يحلم بالسيارات بالأثاث بالقصور بالبيوت بالسفر بالدنيا؛ ولكن! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥] ذائقة: كأنه شربها في الصباح، إلى هذه الدرجة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥] المصيبة هي: هل هناك من يستأذنك؟ هل هناك من يخبرك؟ أم أنه حادث سيارة وانتهى الأمر، أو لعلها نومة لا تستيقظ منها ولا تدري هل تخبر أهلك؟ وماذا تريدون إذا رجعت من العمل أو من المدرسة؟ فإذا بك لا ترجع، لا تعلم لعلها السفرة الأخيرة، لعلها وأنت تلعب أو تسبح أو تنام أو أنت ساجد أو قائم أو راكع! لا نعرف! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] والله لو كنت في أفضل الأماكن، وحولك الأطباء قد تجمعوا ليرجعوا لك الروح إنها النهاية.

ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شي

أيها الأخ العزيز! أريد منك في هذه اللحظات أن تتخيل نفسك وقد جاءك ملك الموت، ولنبدأ معاً هذه الرحلة.

يا أخي الكريم: لعلك في هذه اللحظة تلتفت فإذا بملك الموت جالس عند رأسك، ونعرف حينها إن كنت عبداً صالحاً، هل صليت الصلاة، وحافظت على الواجبات، وهل إن عصيت الله تبت، وإن أذنبت رجعت واتقيت الله وأتبعت السيئة الحسنة؟

إن كنت من هؤلاء وجاءك ملك الموت، فإذا بك تنظر إلى ملائكة بيض الوجوه مد البصر من حولك، لعل الأم تبكي، ولعل الزوجة تبكي، ولعل الأب يبكي، ولعل الطبيب يأتي ويحاول أن يداويك ويرجع لك الروح؛ لكن {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٦ - ٢٧] ينادون: من يداوي هذا؟ أرأيت إن أتتك السكتة؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٧] كأن القارئ قد خنقته العبرة، وكأنه قد تردد هل من راق؟ أي: من يداويه وهو يعلم أنها النهاية {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاق} [القيامة:٢٨].

أخي الكريم! لو كانت هذه اللحظة قد أتتك هل أنت مستعد؟ حاسب نفسك هل صليت الصلوات الخمس في بيت الله بخشوعها وأركانها وواجباتها، أم أنك لا تعرف بما صلى الإمام في صلاة العشاء أم أن الفجر ليس في جدولك؟ لا نعرف.

أخي الكريم! كم تلفظت بكلمة حرام في هذه الليلة أو في ذلك اليوم؟

أخي الكريم! ماذا أديت من حقوق الله في بر الوالدين وصلة الرحم وطلب العلم والدعوة إلى الله؟ كم زلة وقعت منك هذا اليوم كن صادقاً مع نفسك.

أخي الكريم! إذا خدعت فإنك لا تخدع إلا نفسك.

نبدأ إلى تلك الرحلة رحلة الرجل الصالح الذي تاب إلى الله، نعم.

يذنب، ولكنه يندم، ويخاف ويوجل القلب، ويرجع إلى الله، ويتبعها الصالحات.

هذا الرجل يأتيه ملك الموت وهو مستعد وجاهز، تخرج روحه كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، هل يحس ويتألم بها؟ لعل الجسد يتألم أما الروح فلا، تخرج الروح كما تسيل القطرة، فيأخذها ملك الموت، فتخرج كأطيب ريح وجدت على وجه الأرض، فتصعد إلى السماء الدنيا فيفتح لها، هذه روح شريفة، مرغ جبهته لله، باراً بوالديه، واصلاً أرحامه، متصدقاً في سبيل الله، يصلي الصلوات الخمس، يعف عن الحرام، إن زل رجع إلى الله وتاب، تفتح له أبواب السماء كلها إلى السماء السابعة ثم ترجع إلى جسده، وهو الآن في حفرة ضيقة؟ يسمع أناساً يمشون فوقه، يسمع قرع نعالهم، فالأمر سريع، لعلها ساعات قليلة؛ بل لعلها دقائق، والناس لا يزالوا حوله، ولا ندري لعلهم قد صفوا صفوفاً يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أباه يبكي عليه فوق قبره، ولعل الإخوان يقولون: مسكين فارق الدنيا! مسكين لم يتمتع بشبابه! مسكين ذهب ولم يكمل دراسته! ولم يرَ الزوجة! ولم يرَ ابنه في بطن أمه! ولم يفعل ولم يفعل!