للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوة الإيمان عند عمر بن عبد العزيز]

اسمع -يا عبد الله- إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الراشد، كان يقوم الليل يصلي -انظر كيف كانوا يعيشون مع كلام الله- فإذا به يقرأ في الليل آية ويرددها الليل كله وهو يبكي! انظروا الفرق بيننا وبينه، وانظروا إلى قلوبنا وقلوبهم، وأحوالنا وأحوالهم، هذا الرجل يقرأ بنفسه الآية ثم يبكي الليل كله، أما نحن -أيها الناس وأنا أولكم- فنسأل الله ألا يكون قد ختم على قلوبنا، أتعرف ما هي هذه الآية؟ {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر:٧١] مَن هم؟ إنهم أهل النار أين الأغلال؟ في الأعناق، أتظنها كأغلال الدنيا؟ أم تظنها كحديد الدنيا؟ ماذا يلبسون؟ سرابيلهم -ملابسهم- من قطران -أي: نحاس منصهر- يلبسونه! تخيل هل تتحمل الأغلال في الأعناق {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر:٧١] ثم ماذا؟ {يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ} [غافر:٧١ - ٧٢] يسحبون على وجوههم في النار، وتخيل هذا المنظر {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:٧٢] ثم يحرقون في النار، يتقلبون بل يشوون في النار {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:١٥ - ١٦] أتعرف ما معنى {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:١٦]؟ أي: ينفصل اللحم عن العظم من شدة الحر فكيف بالنار؟!

عبد الله! يتفكر في هذه الآية طوال الليل وهو يبكي ويرددها، ولكن انظر إلى حالنا! لا تظن -يا عبد الله- أنك عندما تصلي، وتحضر بعض الدروس، وتستمع إلى بعض الآيات، وتتصدق ببعض الدنانير لا تظن أنك قد أمنت مكر الله، لا تعرف فالأعمال بالخواتيم، فكم وكم من الناس كان صالحاً فختم له بالسوء؟!

اسمع إلى هذا الشاب الذي حفظ القرآن كله وخرج للجهاد في سبيل الله، وهذه القصة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية، فكان في الجهاد من أفضل الناس، يصلي بالناس، ويقرأ فيهم القرآن، ويعلمهم، فأحبه الجيش كله، وكان يختم القرآن كله، فلما وصلوا إلى معسكر الروم، وعسكروا عند حصنهم، فإذا بهذا الشاب يذهب ليقضي حاجة له، فلما ذهب نظر في الحصن فإذا فتاة نصرانية تنظر إليه، فنظر إليها.

عبد الله! إنما لك الأولى وليست لك الثانية، اصرف بصرك، ألا تحفظ القرآن؟ ألم تسمع قول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:٣٠]؟ ما لك؟ لكنه استمر في النظر وتلذذ به، ثم خاطبها انظر كيف أن النظر يؤدي إلى الكلام، والكلام يؤدي للشوق، فإذا به يقول لها: كيف السبيل إليك؟ أين كتاب الله؟! فقالت له تلك الفتاة: أن تتنصر، فإذا به يطرق باب الحصن، ويعلن ردته ويتنصر، وكان قبل قليل يصلي بالناس، ويحفظ القرآن كله، فيدخل الحصن ليعانقها، فيبحث المسلمون عنه فلم يجدوه، فأسفوا عليه أسفاً شديداً، بحثوا عنه فظنوا أن الروم قد أسروه؛ بل لعلهم قتلوه، ثم رجعوا إلى بلادهم وقلقوا وحزنوا عليه حزناً شديداً، ورجعوا في السنة القادمة، وعاد الأمر مرة أخرى؛ فإذا بهم يعسكرون عند الحصن نفسه، وإذا بهذا الشاب الذي كان يصلي بهم ويحفظ القرآن يقف مع النصارى في صف واحد يرفع السلاح، فقالوا له ينادونه: يا فلان! فنظر إليهم، فقالوا له: يا فلان! ما فعلت قراءتك؟! ما فعلت صلاتك؟! ما فعل عملك الصالح؟! فقال: لقد أنسيتُ القرآن كله إلا آية واحدة لم ينساها أتعرف ما هي يا عبد الله؟ {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:٢] الله أكبر! جعلها الله حسرة في قلبه، يتعذب بها إلى يوم يلقاه {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:٢] لا تقل: الحمد لله! أنا أصلي، وأقرأ القرآن، وأنا مسلم! لا يا عبد الله، لا تأمن مكر الله، ادعُ الله في السجود، ادعُ الله بين الأذان والإقامة، ارفع يديك، وقل: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم ما يدريك لعل الله قد لا يقبل منك حسنة، ولعل الله عز وجل لا يتقبل منك سجدة وركعة.

يأتي ابن عمر سائل، فإذا به يقول لابنه: [أعطه درهماً؟ فيعطيه درهماً، فيذهب ليتصدق، ثم قال له ابنه: يا أبتاه! هل تقبل الله منك؟ فقال ابن عمر -واسمع إلى تلك الكلمات العظيمات-: يا بني! لو علمت أن الله قد تقبل مني ما كان غائب أحب إلي من الموت] لو كان الواحد منا يعلم أن الصلاة متقبلة منه، أو أن الله تقبل منه حسنة ما كان غائب أحب إلينا من الموت.

أتعرف لماذا؟ يقول: لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧]، ويقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:٦٠] أي: يصلون، ويركعون، ويقومون الليل، ويصومون النهار، ويدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وقلوبهم وجلة، {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] هذا الذي يصلي ويركع ويسجد، يخاف أن الله لم يتقبل منه، فكيف -يا عبد الله- بمن إذا جاء في الليل، وأغلق باب بيته، وجلس مع أهل بيته وفتح لهم التلفاز، فنظر إلى ما شاء، واستمع إلى ما شاء، وقلَّب المجلة فنظر فيها إلى ما شاء، وذهب إلى الأسواق يتلفت يمنة ويسرة، ويكلم من شاء، ويضاحك من شاء، ويلاعب من شاء، وينظر إلى من شاء هذا كيف يخاف؟!

عبد الله! لنكن صرحاء مع أنفسنا، ولنكن صادقين، والواحد منا يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله جل وعلا.