للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلمة حق عند سلطان جائر]

وأخرى تجرُّ لخيرٍ منيف، كلمة حقٍ يصدع بها صاحبها، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يترخص إن رأى في نفسه قوة التحمل والصبر، فيعيش فاعلاً متفاعلاً عزيزاً وإن قتل، فلعله يكون من سادات الشهداء الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: {سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله}.

هاهو الإمام/ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يأمر وينهى، وينكر على من يولي الظلمة لا تأخذه في الله لومة لائم، ولي القضاء في زمنه أبو الوفاء الظالم، فقام الجيلاني وقال لمن ولاه: وليت على المسلمين أظلم الظالمين، ما جوابك غداً عند رب العالمين أحكم الحاكمين؟ فارتعد الخليفة وبكى وعزل القاضي المذكور لوقته.

ألا ما أحوج الأمة إلى صادعٍ بالحق يصدع رءوساً قد تشبعت وتصدعت من كثرة الإضراء والملق، وصرفت عن تدبر آيات الله ونذره، ونصبت أنفسها آلهةً تقول فلا يرد قولها، فمن لها إلا العلماء الربانيون الذين إذا قالوا بطل قول كل قائل

فليشعر الخلق أن الغيل مأسدةٌ إن غاب رئبالها جاءت برئبال.

ولكم سلف؛ قام أبو هريرة رضي الله عنه إلى مروان وقد أبطأ بالجمعة، فقال له: [[أتظل عند ابنة فلان تروحك بالمراوح، وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من الحر؟! لقد هممت أن أفعل وأفعل]] اسمعوا.

كم صامتٍ شرواه إن قال ارتدت أقواله تحكي لغات الأرقم

وهاهو ابن أبي ذئب عليه رحمة الله، المهيب الآمر الناهي؛ يجيء إلى أبي جعفر، ثم يقول له: قد هلك الناس، فلو أعنتهم من الفيء يا أبا جعفر، فقال أبو جعفر: ويلك لولا ما سددت من الثغور؛ لكنت تؤتى في منزلك فتذبح، فقال ابن أبي ذئب: هون عليك! قد سد الثغور وأعطى الناس من هو خيرٌ منك؛ الفاروق عمر رضي الله عنه

إذا أخصبت أرضٌ وأجدب أهلها فلا أطلعت نبتاً ولا جازها الزرع

فنكس المنصور رأسه، والسيف في يد صاحبه، ثم قال: دعوه هذا خير أهل الحجاز.

لا يعلم إلا الله ما سيكون إن لم يقل الربانيون كلمة الحق، المسلمون ينحدرون من هاويةٍ إلى هاوية يتقهقرون يتهافتون، وحذو القذة بالقذة لأعداء الله يتبعون.

ألفت الأمة الآثام حتى أمست جزءاً من كيانها تتمسك به، وتدافع عنه، زين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم، كانت الأقذار الجنسية تتم في خفاء، ثم صارت تبدو على استحياء، ثم تواطأ عليها الرعاع حتى دخلت إلى أعماق البيوتات عن طريق الشبكات والقنوات، ثم صارت قانوناً يعمل به في بعض البلاد، ثم انعقدت لها مؤتمراتٍ عالمية تدعو إليها لا ترى فيها عوجاً، فمن للفضيلة إن سكت الربانيون؟!

فئةٌ بائسة تكره الدين، وتنقم على الوحي، وتريد تحت ثوب النفاق أن تعيدنا إلى النفاق وعمل الجاهلية

قبحت منابتها وشاه نباتها بسوى الفضائح نبتها لم يثمر

من لهؤلاء إن سكت الربانيون؟ لا أبطل من الباطل إلا السكوت عليه، والساكت عن الحق شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، لما ولي السفاح ظهر الجور في أفريقيا، فوفد p=١٠٠٠٥٦٩> ابن أنعم قاضي أفريقيا نعَّم الله عينه من آمرٍ وناه، وفد وهو عالمها وقاضيها على أبي جعفر مشتكياً، فقال له: ما بك يـ ابن أنعم؟ قال: جئت لأعلمك بالجور في أفريقيا بلادنا، فإذا هو يخرج من دارك، فغضب وهمَّ به، ثم قال له: كيف لي بأعوان، قال: إن عمر بن عبد العزيز كان يقول: الوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ما ينفق فيه.

له منطق ينبيك عن بأسه كما يدل على بأس الأسود زئيرها

فأطرق، ثم أومأ إلى حاجبه أن يخرجه، فخرج وقد أدى ما عليه.

له قلب أشد من الرواسي وذكرٌ مثل عرف المسك فاحا

معشر الإخوة! أكثرت الأمثلة من باب:

على آثارهم سيروا تكونوا خير ركبان

إن على القائمين بأمر الله ودينه علماء ودعاة ومن دونهم -كل بحسبه- أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان، نصحاً أو تغييراً أو إنكاراً؛ لا يخافون لومة لائم، سواءً هذا الشر قد جاء من حاكمٍ متسلطٍ بالكفر، أو غنيٍ متسلطٍ بالمال، أو أشرارٍ متسلطين بالأذى، أو جماهير متسلطة بالهوى، منهج الله هو منهج الله، والخارجون عليه سواء، وكلٌ بحسبه، وقد الرءوس في الشرف بقاء، ولحظةٌ من حياة الأسد خيرٌ من حياة الشاة مائة عام، فليكن الحال:

ولما رأيت الحرب حرباً تجردت لبست مع البردين ثوب المحارب

يا لله! أكل سوقيًّ ونبطي ومنافقٍ وعامي ومن لا يعرف له أصلٌ وأبٌ في العلم يريد أن يطرح علينا بسوئه؛ لتصير الرذيلة ديناً، ثم يخرس أهل الحق:

اجهر برأيك لا يأخذك ترويع لا ينفع الصوت إلا وهو مسموع

إن أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطانٍ جائر، لا يثقلنك الطمع، ولا يوهننك الفزع ما استطعت إلى ربك أعذر وما استطعت فانه ومر، وغيِّر أو أنكر، زادك الإيمان، وسندك الرحمن:

إن تكن في مثل نيران الخليل أسمع النمرود توحيد الجليل

وإلا فالحتوف، والضيم كل الضيم أن يتنمر المتنمرون وأنت خاضع.