للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السلف الصالح وخشية الله]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

درسنا في هذه الليلة: "نماذج من أحوال السلف".

جلس ابن مسعود رضي الله عنه عند أصحابه فقال أحدهم: [ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، ولكني أحب أن أكون من المقربين.

فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إن هاهنا رجلاً -يعني نفسه- يود أنه إذا مات لم يبعث] يتمنى أنه يموت ولا يبعث، وأنت تقول: تريد أن تكون من المقربين ولا تريد أن تكون من أصحاب اليمين!

يقول إدريس بن حوشب: [ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز! كأن النار لم تخلق إلا لهما] يقول: أراهما من خوفهما كأن النار خلقت لهما فقط ولم تخلق لغيرهما.

وقال عبد الرحمن بن الحارث: [كنت عند عبد الله بن حنظلة يوماً وهو على فراشه وقد عدته من علته -كان مريضاً- فتلا رجلٌ عنده هذه الآية: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:٤١] فبكى حتى ظننتُ أن نفسه ستخرج، قال: صاروا بين أطباق من النار، ثم قام على رجليه، فقيل: اجلس رحمك الله.

قال: إن ذكر النار منعني الجلوس والقعود، لا أدري لعلي أكون أحدهم].

ويقول عبد الرحمن بن مهدي: [بات سفيان عندي، فكلما اشتد به الأمر جعل يبكي - سفيان الثوري رحمه الله- فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أراك كثير الذنوب، فرفع شيئاً من الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عندي من هذا التراب، لكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت].

انظر كيف يصف الله حالهم! {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:٣٧].

جاء سائل إلى ابن عمر فقال ابن عمر لابنه: [أعطه ديناراً -فقير أعطه ديناراً- فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه.

فقال ابن عمر: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة أو صدقة درهم واحد؛ لم يكن غائب أحب إلي من الموت] أتدري ممن يتَقَبَّل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] الواحد منا إذا صلى العصر ضمن، وإذا صلى التراويح كأنه وصل، وإذا تصدق بمائة دينار يذكرها طوال عمره، وهذا يقول: لو علمت أن الله تقبل مني درهماً لتمنيت الموت.

ويقول الحسن البصري: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، يا ليتني كنت ذلك الرجل، يا ليتني كنت ذلك الرجل.

أي: أمكث في النار فقط ألف عام، والواحد منا كأنه أصاب الفردوس.

وسفيان الثوري كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم رحمه الله، لشدة بكائه وخوفه ووجله من ذلك اليوم.

وعن عروة بن الزبير قال: [كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة -يقول: أول بيت أزوره بيت عائشة رضي الله عنها- قال: أسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تقرأ قول الله عز وجل وتردد وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٧] وتعيدها وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٧] يقول: فانتظرتُها، فأطالت وهي تبكي، قال: قلتُ: أذهبت إلى السوق فأقضي حاجتي ثم أرجع، قال: فذهبت فقضيت حاجتي فرجعت وهي تردد الآية وتبكي، رضي الله عنها].

ويقول يونس بن عبيد: [دخلنا على محمد بن واسع نعوده وما يدري عني، فأخذ الناس يمدحونه ويثنون عليه، فقال محمد بن واسع: وما يغني عني ما يقول الناس إذا أُخِذ بيدي ورجلي فألقيت في النار؟!] يقول: ماذا ينفعني كلام الناس؟ هذا يمدح، وهذا يثني، وهذا يطري، وهذا يقول فيَّ ما يقول، يقول: ماذا ينفعني هذا الكلام إذا أخذ بيدي ورجلي ثم ألقيت في النار؟!

ومالك بن دينار يظل طوال الليل يقبض على لحيته ويبكي ويقول: [يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك؟] يقول ذلك وهو يبكي {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:١٦] كلما وضع خده على الفراش بكى وقام، وكلما أراد النوم أطار ذكر النار النوم من عينيه.

دخل العلاء على عطاء السلمي وقد غُشي عليه، فقال لامرأته أم جعفر: ما باله؟ ما الذي جرى له؟ فقالت: سجرت جارتنا تنوراً فنظر إليه فخر مغشياً عليه نظر إلى التنور فتذكر نار الآخرة فأغمي عليه ولم يستطع أن يقوم من مكانه.

يروى عن الحسن بن صالح أنه قام ليلة كاملة بقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:١ - ٢] فغُشي عليه، فلم يختمها حتى الفجر.

إذا ما الليل أظلم كابدوه فيُسْفِرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ

أطار الخوفُ نومَهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ

وهذا محمد بن المنكدر بكى في الليل فجاء أهله يرحمونه، فأرسلوا إليه أبا حازم، فجاء أبو حازم إليه يقول له: ما الذي جرى؟ أبكيت أهلك؟ أبكيت الجيران يا أبا عبد الله؟ قال: قرأت قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] يقول: وما أدري لعلي أكون منهم، فبكى محمد مرة أخرى، وبكى معه أبو حازم، فجاء أهله وقالوا: جئنا بك لترحمه فأثقلت عليه وشققت عليه {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:٤٧] يحسب أنه قرأ القرآن، وأنه تصدق، وأنه صلى الله عليه وسلم، ثم وصل إلى الجنة، فإذا أتى يوم القيامة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:٢٣].

شرب عبد الله بن عمر ماءًَ بارداً، فأخذ يبكي واشتد بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤] قال: فعلمتُ أن أهل النار يشتهون في النار الماء -وهو يشرب الماء- فينادون في النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:٥٠] ثم اشتد بكاؤه مرة أخرى من هو؟ إنه ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

يقول مالك بن دينار: [البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس].

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغلُ

في ليلة من الليالي فزع الحسن البصري من النوم، فأخذ يبكي، فبكت زوجته وبكى أهل البيت كلهم، حتى سئل فقال: ذكرت ذنباً لي فبكيت.

في النوم تذكر أنه أذنب ذنباً واحداً، ونحن إذا نمنا على الفراش ماذا نتذكر؟! كم هي الذنوب! وكم هي المعاصي! وكم هي الخطايا! والمصيبة أن العين لا تدمع، وأن القلب لا يخشع، وأن النفس لا تمتثل لأمر الله.

كان عمر بن عبد العزيز يصلي ذات ليلة، فوصل إلى قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:٧١ - ٧٢] فجعل يبكي حتى الصباح.

وقبل أن يموت عمر بن عبد العزيز قيل له: إنك مسموم يا عمر! فقال: أيقول الناس فيَّ هذا؟ قالوا: نعم.

فنادى غلاماً له -وهذا الغلام هو الذي سقاه السم قبل أن يموت- فقال لذلك الغلام: ما الذي حملك على أن تسقيني السم.

قال: أعطيت ألف دينار على أن أقتلك.

فقال له عمر -بينه وبينه-: ائت بهذه الألف وضعها في بيت المال ثم اذهب ولا يراك أحد.

قتله فرحمه فعفا عنه قبل الموت.

وروي عن تميم الداري أنه قرأ ليلة من الليالي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:٢١] فتوقف وأخذ يبكي حتى الصباح.

وقيل أن عطاء السلمي سئل: ما هذا الحزن؟ لم كل هذا الحزن والبكاء والخشوع؟ فقال للسائل: ويحك! الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يُصنع بي، ثم تسأل لماذا أحزن؟! إذا كان هذا القبر بيتي، ويوماً من الأيام سوف أرد على الصراط، أُخبرت أني سوف أرده ولم أُخبر أنني سوف أجوز عليه، وفي القيامة موقفي ثم تقول لم تحزن!!