للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفكر في أهوال يوم القيامة]

تعالوا -عباد الله- نعيش هذه الساعة كأننا في يوم القيامة.

تعالوا نعيش يوم القيامة في هذه الساعة؛ لعلنا نتذكر أمور الآخرة، ولعل النفوس تقلع عن غيها، وتثوب إلى رشدها، وتعود إلى طاعة ربها عز وجل، فكما أن للموت شدة في أحواله وسكراته، وخطراً في خوف العاقبة، كذلك الخطر في مقاساة ظلمة القبر وديدانه، ثم فتنة منكر ونكير وسؤالهما، ثم عظمة القبر وخطره إن كان مغضوباً عليه، وأعظم من ذلك كله: الأهوال التي بين يديه من نفخ الصور، والبعث يوم النشور، والسؤال على القليل والكثير، ونصب الميزان لمعرفة المقادير.

فهذه أحوال وأهوال لابد لك من معرفتها، ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق، ثم تطويل الفكر في ذلك؛ لتنبعث من قلبك دواعي الاستعداد لها.

وأكثر الناس لم يدخل الإيمان باليوم الآخر صميم قلوبهم، ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم، ويدل على ذلك شدة تشميرهم لحر الصيف وبرد الشتاء، وتهاونهم بحر جهنم وزمهريرها مع ما فيها من المصاعب والأهوال، بل إذا سئلوا عن اليوم الآخر نطقت به ألسنتهم ثم غفلت عنه قلوبهم.

ومن أخبر بأن ما لديه من الطعام مسموم فقال لصاحبه الذي أخبره: صدقت، ثم مد يده لتناوله كان مصدقاً بلسانه مكذباً بعمله، وتكذيب العمل أبلغ من تكذيب اللسان.

فمثل نفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتاً من شدة الصاعقة، شاخص البصر نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي كان فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الرعب مضافاً إلى ما كان عندهم من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر، قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨].

وتفكر في الخلائق وذلهم، وانكسارهم واستكانتهم؛ انتظاراً لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة، وأنت فيما بينهم منكسر كانكسارهم، متحير كتحيرهم، فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة، وازدحموا في الموقف شاخصة أبصارهم، منكسرة قلوبهم؟ فكيف ترى حياءك _يا عبد الله- وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك، وأياديه ومساويك؟! وتفكر في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه، والخجل والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار تعالى، وأنت عار مكشوف متحير ذليل مذعور، منتظر ما يجري عليك القضاء بالسعادة أو الشقاوة، فما أعظم هذه الحال! فإنها عظيمة، واستعد لهذا اليوم العظيم شأنه، القاهر سلطانه، القريب عذابه، يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، والنجوم الزواهر من هوله قد انكدرت، والجبال قد سيرت، والعشار قد عطلت، والوحوش قد حشرت، والنفوس إلى الأبدان قد زوجت.