للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دقة الإمام مسلم وشدة تحريه في الجامع الصحيح]

قال الإمام النووي ما ملخصه: سلك مسلم رحمه الله في صحيحه طرقاً بالغة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة؛ وذلك مصرح بكمال ورعه، وتمام معرفته، وغزارة علومه، وشدة تحقيقه بحفظه، وتقعده في هذا الشأن، وتمكنه من أنواع معارفه، وتبريزه في صناعته، وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه، لا يهتدي إليها إلا أفراد في الأعصار، فرحمه الله ورضي عنه، وأنا أذكر أحرفاً من أمثلة ذلك.

قوله: (رضي عنه) هي على سبيل الدعاء، فيجوز أن تقول لإنسان: رضي الله عنك على سبيل الدعاء، أما على سبيل الخبر فلا يجوز أن تقول إلا للصحابة، فإنهم يختصون بذلك؛ لأنهم هم الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.

يقول رحمه الله: وأنا أذكر أحرفاً من أمثلة ذلك تنبيهاً بها على ما سواها، إذ لا يعرف حقيقة حاله إلا من أحسن النظر في كتابه مع كمال أهليته ومعرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة، كالفقه والأصولين -يعني: المصطلح وأصول الفقه- والعربية، وأسماء الرجال ودقائق علم الأسانيد والتاريخ، ومعاشرة أهل هذه الصنعة، ومباحثتهم مع حسن الفقه ونباهة الذهن، ومداومة الاشتغال بالذهن وغير ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها.

فمن تحري مسلم رحمه الله: اعتناؤه بالتمييز بين حدثنا وأخبرنا.

والفرق بين (حدثنا) و (أخبرنا) أن من يسمع مع جماعة من لفظ الشيخ يقول (حدثنا)، ومن سمع لوحده يقول (حدثني).

أما من قرأ على الشيخ وهو جالس فإنه يقول: (أخبرنا) إذا كان معه جماعة من طلبة العلم، فلو كان لوحده يقول: (أخبرني).

وكثير من العلماء لا يفرقون بين (حدثنا) و (أخبرنا) فيقولون: هما درجة واحدة، وبعض العلماء يرجح (أخبرنا) على (حدثنا)، لأن الشيخ قد يسهو في القراءة عندما يقرأ فلا يستطيع أحد أن يرد عليه، ولكن لو قرئ على الشيخ والشيخ جالس متيقظ فإذا أخطأ القارئ فإن الشيخ يرد عليه، فقد كان الطلبة يقرءون على الإمام مالك الموطأ، ولهذا كان بعض العلماء يرجح القراءة على الشيخ على نفس قراءة الشيخ.

فالحاصل: أن الإمام مسلماً كان من الذين يفرقون بين (حدثنا) و (أخبرنا)، فـ (حدثنا) لابد فيها أن يسمع الطالب لفظة الشيخ وكلام الشيخ، أما (أخبرنا) فإن الطالب يقرأ على الشيخ.

يقول النووي رحمه الله: وتقييده ذلك على مشايخه وفي روايته.

فإذا قال له شيخه: حدثنا فلان فإنه يثبت هذه الكلمة وكذلك إذا قال له: أخبرني.

يقول: وكان من مذهبه رحمه الله الفرق بينهما، وأن (حدثنا) لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و (خبرنا) لما قرئ على الشيخ.

وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه وجمهور أهل العلم بالمشرق.

ومن ذلك اعتناؤه بضبط اختلاف لفظ الرواة كقوله: حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان، يعني: أن الحديث له راويان، ولكن لفظ المتن مختلف فيميز فيقول: حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان، وهذا من شدة دقة الإمام مسلم وتحريه.

يقول رحمه الله: قال أو قالا: حدثنا فلان، وكما إذا كان بينهما اختلاف في حرف من متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبه أو نحو ذلك فإنه يبينه، وربما كان بعضه لا يتغير به معنى، وربما كان في بعضه اختلاف في المعنى، ولكن كان خفياً لا يتفطن له إلا ماهر في العلوم التي ذكرتها في أول الفصل مع اطلاع على دقائق الفقه ومذاهب الفقهاء.

ومن ذلك تحريه في رواية صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة كقوله: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أي: أن صحيفة همام بن منبه هي مجموعة أحاديث فيها مائة أو مائتا حديث، فهو يذكر أحاديث من هذه الصحيفة لا يذكرها بالسند؛ لأنه روى بسند واحد جملة أحاديث.

فمن تحري الإمام مسلم عندما يروي حديثاً من هذه الصحيفة يقول مثلاً: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: يقول رحمه الله تعالى: فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ أحدكم فليستنشق)، الحديث.

ومن ذلك: تحريه في مثل قوله: حدثنا عبد الله بن مسلمة -ولقبه القعنبي - حدثنا سليمان -يعني: ابن بلال - فلو قال الإمام مسلم: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان بن بلال لكان في ذلك شبهة كذب على شيخه، فهو يريد أن يبين في الرواة أنه سليمان بن بلال، لأنه قد يكون أكثر من سليمان في نفس الطبقة.

يقول