للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[همة أهل التقوى والإيمان]

الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون.

وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.

أما بعد: ننتخب هؤلاء بيض القلوب، وبيض الوجوه، هؤلاء الذين يتجملون بأحسن لباس، فقد تمنن الله عز وجل على بني آدم فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:٢٦].

فنحن ننتخب الذين يتجملون بلباس التقوى، فالله عز وجل بعد أن تمنن على بني آدم بما جعل لهم من اللباس الذي يواري السوءات ويستر العورات، ومن الرياش الذي يتجملون به، ثم ذكر الله عز وجل أجمل لباس، وأحسن لباس، الذي يواري سوءات الظاهر والباطن، والذي يستر العبد في الدنيا والآخرة، فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:٢٦].

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا وخير ثياب المرء طاعة ربه ولا خير في من كان لله عاصيا ننتخب هؤلاء الذين قد جعلوا الآخرة هي شغلهم الشاغل، فلا يتنافسون على كراسي الدنيا، ولا يتنافسون على العلو في الدنيا، ولا يلهثون خلف الدنيا ويسعون خلفها سعياً حثيثا: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨٣].

فنحن ننتخب الذي يشتغلون بالآخرة، والذين يتزودون بزاد الآخرة، كما قال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٩٧]، قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إن أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج ولا يتزودون في سفرهم إليه، ويقولون: نحن أضياف الله أفلا يطعمنا؟ ثم يصيرون كلاً على الناس، ويسألون الناس، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأمرهم الله عز وجل بالتزود لسفر الدنيا فقال: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:١٩٧].

ثم دلهم على خير زاد -وهو الزاد لسفر الدنيا والآخرة- فقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٩٧].