للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل العلم على المال]

ثم شرع علي رضي الله عنه في بيان فضل العلم على المال، فقال: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم، والمال محكوم عليه، ومحبة العلم دين يدان بها.

أي: العلم خير من المال؛ لأن العلم يحرسك من البدع ومن الشبهات ومن الشهوات، أما المال فيحتاج إلى حارس.

وقال: العلم يزكو على الإنفاق.

أي: إذا علم العالم العلم ثبت في قلبه وتفجرت ينابيعه في قلبه، وأورثه الله عز وجل علماً جديداً؛ لأن زكاة العلم العمل به وتعليمه.

ثم قال: العلم حاكم والمال محكوم عليه.

أي: العلم يحكم على الملوك فمن دونهم، والمال محكوم عليه.

ثم قال: ومحبة العلم.

وفي رواية: ومحبة العلماء دين يدان بها.

أي: من الدين أن تحب العلم وأن تحب أهل العلم، لأن محبة العلم تدعو إلى تعلمه، وتدعو إلى العمل به، ومحبة العلماء تدعو إلى العمل بعلمهم والاقتداء بهديهم.

دخل رجل البصرة فقال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري.

قال: فبم سادهم؟ قالوا: احتاجوا إلى علمه، واستغنى عن دنياهم.

وذكر الإمام العلامة ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) أربعين وجهاً من فضل العلم على المال، من ذلك: أن حرص العبد على العلم عين كماله، وأن حرص العبد على المال عين نقصه.

من ذلك: أن لذة العلم لذة حقيقية يتنعم العبد بعلمه في الدنيا وفي الآخرة.

أما لذة المال فلذة بهيمية أو وهمية، إما أنه يشترك مع البهائم فيها كالأكل والشرب، أو لذة وهمية فهو يفرح بأن يزداد رصيده أو يزداد ماله، كما قال عز وجل: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران:١٤] فهذه شهوة من شهوات النفوس، ولا يمكن لأحد مهما عاش في الدنيا أن ينفق قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، ولكنها لذة وهمية.

من محبة المال أن يفرح صاحبه أن يزداد، وإن كان لا ينفقه ولا ينتفع به ويتركه لورثته.

من ذلك: أن المال ينتفع به في الدنيا، أما العلم فيدخل به قبره.

من ذلك: أن التمتع والتزين بالمال تزين بشيء خارج عن نفسه، أما التزين بالعلم فشيء في صلب نفسه.

ثم قال رضي الله عنه: مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر.

كم في بلادنا -عباد الله! - من يملك المليارات ولا يعرفهم أحد ولا يحبهم أحد ولا ينتفع بهم أحد، وهم مغموسون في الشهوات واللذات عباد الله، فهم أموات بالنسبة إلى الناس لا ينتفع بهم، وليس لهم محبة في قلوب الخلق.

وكم مات من علماء الأمة الأعلام كالسفيانين والحمادين والأئمة الأربعة أئمة الفقه، وأئمة الحديث، وأئمة الجرح والتعديل، وعلماء الأمة الأعلام كـ شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن كثير وغيرهم، مات هؤلاء منذ أزمنة طويلة ولا يكاد يمر يوم حتى يذكرهم الناس ويثنوا عليهم، وحتى ينتفع الناس ببركة علمهم وفضلهم.

قال هارون الرشيد لأحد تلامذته: من أنبل الناس؟ قال: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، فقال: بلى، رجل جالس في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا اسمه مرتبط باسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حلقة في سلسلة أعلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نحن نموت -أي: الملوك يموتون- أما هؤلاء العلماء فلا يموتون.

ثم قال رضي الله عنه: أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.

أي: ما يفقد الناس إلا أجسامهم وأعيانهم، وإلا فأمثالهم ومحبتهم وعلمهم والثناء عليهم موجود في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.