للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا تخصيص إلا بتنصيص]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى على نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة، ونسأل الله جل وعلا المزيد من فضله، والعظيم الجليل من نعمه، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن اتبع هداه، وعلى من سار واقتفى واهتدى بهداه عليه الصلاة والسلام.

أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا لقاؤنا المتجدد معكم في يوم الجمعة الموافق التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة عام (١٤١٨هـ) مع الدرس الثاني والستين بعد المائة الأولى، وعنوان درس هذا اليوم: عشر ذي الحجة مسائل وفضائل.

ونحن نقارب توديع هذا الشهر شهر ذي القعدة، ونستقبل خلال يوم أو يومين شهر ذي الحجة، نقف مع هذه الأيام الفاضلة لنرى بعض فضائلها والأعمال الواردة فيها، وبعض المسائل التي ذكرها أهل العلم بشأنها.

وأول ما نبدأ به مسألة مهمة: لا تخصيص إلا بتنصيص: فجعل خصوصية لزمان بعينه أو لمكان بعينه أو لقول بلفظه أو لعمل بخصوصه، ليس له سبيل ولا مدخل إلا عن الله عز وجل وبتبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يخص من الأزمنة زماناً ويدعي له فضلاً أو ينسب له مزايا، فإن هذا ليس لأحد من الخلق، قال الحق جل وعلا: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨] فالاختيار والتخصيص حق لله سبحانه وتعالى، به فرق الله عز وجل بين بعض بقاع الأرض وإن استوت في طبيعتها، فكلها واحدة وطبيعتها واحدة، لكن الله جل وعلا فضل بعضها على بعض، وجعل لمكة وللمدينة من الفضيلة والأجر والثواب ما ليس لغيرهما، وفضل من الشهور رمضان، وفضل من الأيام أياماً سيأتي ذكر بعضها كيوم النحر ويوم عرفة وغير ذلك، وفضل في الأزمان أزماناً بعينها، فجعل وقت السحر والثلث الأخير من الليل فاضلاً على غيره من سائر أوقات اليوم: (وجعل في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن فيسأل الله شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا آتاه الله إياه) كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والذي يدل أيضاً على هذا التخصيص أنه لا يكون إلا بتنصيص، أنه قد تكاثرت النصوص بتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لفضائل معينة، فجاءت فضائل كثيرة في فضل يوم الجمعة، ووردت أيضاً خصائص لبعض الأيام كهذه الأيام التي نحن بصدد الحديث عنها، وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تفضيل أقوال بعينها كما في حديث أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها التي كانت تذكر الله عز وجل، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من عندها ثم رجع وهي ما زالت في مجلس ذكرها فقال: (أما زلت على ما كنت عليه حين فارقتك؟! قالت: نعم، فقال: لقد قلت آنفاً كلمات تعدل ذلك كله: سبحان الله وبحمده: عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأقوال فضيلة بعينها.

وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام تخصيص أذكار بعينها، لأدواء بعينها، فذكر للأرق، وذكر عند الهم والغم ونحو ذلك، فكل هذا التخصيص كله جاء بتنصيص يدلنا على هذا.

وقد ورد إبطال تخصيص سابق أو تخصيص منفرد جاء النبي عليه الصلاة والسلام فأبطله وغيره، مما يدل على أنه ليس لأحد مدخل في ذلك إلا بتبليغ الشارع الحكيم، فقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ولهم عيدان فأبطل ذلك وقال: (لنا أهل الإسلام عيدان) فخص ذلك وأبطل ما سواه.

وكذلك كان لهم في بعض الأيام أعمال، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة وهم يصومون عاشوراء مع اليهود فقال: (نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه) فهذا كله يدل على أنه لا تخصيص إلا بتنصيص.

وقد وقع الناس في الخلل عندما لم تفهم هذه المسألة، ولم يلتزم بعض المسلمين بها، فصار بعضهم يأتينا بقول من عنده، فقائل بفضيلة معينة في ليلة الإسراء والمعراج، وقائل بفضيلة بصيام في أول رجب أو في أثناء رجب، وقائل بفضيلة لمكان معين أو مزار معين أو قبر معين أو غير ذلك، ولي في ذلك كله آية من كتاب الله ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتنادون له ويجتمعون عليه، فتعظم بذلك الفتنة، وتنتشر البدعة، وتضعف السنة.

وقد كان السلف رضوان الله عليهم يشددون النكير في هذا، ويحذرون منه أشد التحذير؛ لأنه يتناقض مع إكمال الدين وإتمام النعمة والرضا بالإسلام، والزيادة -أيها الإخوة الأحبة- كالنقص؛ لأن ادعاء الزيادة في دين الله عز وجل اتهام -والعياذ بالله- بنقص الدين، جاء هذا فزاد عليه أو استدرك وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما آتاه الله إياه، وهذه مسائل خطيرة يتهاون بها بعض الناس، ويظنونها أمراً هيناً، وهذه قصة للإمام مالك رحمه الله لما جاءه السائل وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن ميقات أهل المدينة فأخبره، فقال الرجل وهو منصرف: لأحرمن من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك: إنها والله الفتنة، فعاد الرجل وقال: وأي فتنة يا أبا عبد الله؟! إنما هي أميال أزيدها، أحرم من المدينة فتزداد مسافتي وأنا محرم فأنال الأجر، قال: الفتنة أن تظن أنك تعمل عملاًَ تفضل فيه رسول الله صلى لله عليه وسلم، ونحن نعلم أنه قد بلغنا كل شيء عليه الصلاة والسلام، ودلنا على الفضيلة في كل عمل وفي كل وقت وفي كل مكان، فالزيادة في مثل هذا طعن في بلاغه عليه الصلاة والسلام وجحد أو إنقاص لنبوته صلى لله عليه وسلم.

فلينتبه لهذا خاصة وأنه قد انتشر في بعض البيئات والبلاد والمجتمعات الإسلامية.