للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدروس المستفادة من فتنة خلق القرآن ووقت نشوئها]

في هذه المحنة دروس كثيرة منها: كيف نشأت هذه الفتنة العظيمة؟! كان في آخر عهد الرشيد بداية لانتشار المقالات الفلسفية التي وردت إلى المسلمين من أولئك الفرس وغيرهم ممن فتحت بلادهم، وكان المأمون ممن تتلمذ على العلاف وهو شيخ من شيوخ المعتزلة، ثم قرب إليه هؤلاء الناس فألقوا في عقله ونفسه الشبه فاقتنع بها، ولذلك من أهم الأمور التي يجب أن تتوافر في الحاكم والخليفة أن تكون له بطانة صالحة من أهل الخير والصلاح، فيحسن حينئذ حاله وتحسن حال الأمة من ورائه، لكن لما كان هؤلاء المبتدعة بطانة المأمون حدثت منه هذه المحن التي ابتلى بها الناس.

وخلاصة هذه الفتنة أن القرآن مخلوق وهذا هو قول المعتزلة؛ لأنهم أنكروا بعض الصفات ومنها صفة الكلام، قالوا: ننكرها لأنا نقع في التشبيه ووصف الله عز وجل بما لا يليق من الأوصاف، فجعلوا القرآن مخلوقاً، وكونه مخلوقاً يقتضي أموراً كثيرةً من الفساد، منها: أن المخلوق يخطئ ويصيب، وبالتالي تزول حرمة القرآن وقدسيته، التي يتلقى بموجبها المسلمون كل شيء وارد في القرآن على أنه حكم مقطوع مجزوم به، فلما أراد أن يقول بهذه الفتنة وبهذه المقولة خشي من بعض العلماء من أهل السنة، فزين له أهل الباطل أن يعلن هذه الفتنة، فهذا يدلنا على أثر أولئك القوم وأثر البطانة، فلما قال: أخشى يزيد بن هارون قالوا: ومن يزيد بن هارون هذا؟ فلما أججوه أعلن هذه الفتنة في سنة (٢١٢هـ) لكنه لم يدع الناس إليها حتى جاء عام (٢١٨هـ) فأعلن فيها هذه المقالة وحمل علماء الأمة عليها، وبدأ يمتحن الناس عليها فأخذ عشرين من كبار العلماء والأئمة في بغداد منهم: الإمام أحمد يريد أن يمتحنهم بهذا القول، وممن حمل إلى الخليفة: محمد بن نوح والقواريري وسجادة كما ذكرنا.

يروى أن أبا جعفر الأنباري عبر النهر ليلقى الإمام أحمد فلقيه وسلم عليه فقال: يا هذا! إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبون، فتحمل أوزارهم إلى يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميداً، قال أحمد: فكان كلامه مما قوى عزمي وثبتني.

هذا مما يدلنا على أن المرء يثبت بإخوانه ويعان بإذن الله عز وجل.

نذكر بعض المواقف في هذه المحنة ومن أعظمها: أنهم لما قدموا على المأمون كان محمد بن نوح قد مات في الطريق، فجاء إلى الإمام أحمد خادم الخليفة وهو يمسح دموعه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال: فجثا الإمام أحمد على ركبته ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي! غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولئك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته؛ قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد: ففرحنا، وفي بعض الروايات: أن الإمام أحمد قال: اللهم إني أسألك أن لا أراه ولا يراني، فكان الأمر كما كان.

وفي هذه الفترة رجع الإمام أحمد مع محمد بن نوح لمقابلة المعتصم، وكان مرض ابن نوح وموته في الطريق قبل أن يصل إلى المعتصم.