للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شهادة التاريخ بالعاقبة للمتقين]

وانظر أخي المسلم إلى التاريخ يصدقك هذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم، ألم تسمع عن جيوش التتار الغازية البربرية الوحشية المدمرة الفتاكة التي ما تركت أخضر ولا يابساً، والتي أتت على كل معنى من معاني الإنسانية، ودمرت كل معلم من معالم الحضارة البشرية، ألا ترى تلك الأحوال؟ ألم تقرأ عن دخول التتار إلى بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة؟ قال ابن كثير في تاريخه: إن عدة من قتلوا في بغداد في ذلك الوقت نحو ثمانمائة ألف نسمة، ويذكر في رواية أخرى أنهم يزيدون عن ألف ألف، أي عن مليون.

قال: قتلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يوماً يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين.

ثم ماذا بعد ذلك أيها الإخوة؟! بعد عامين اثنين فقط، في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت لتكون نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، ودحراً وكسراً للتتار المعتدين.

ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجاً وصاروا مسلمين، بمقياس العقل والمادة، لا يمكن لأمة هزمت مثل هذه الهزيمة وحلت بها مثل هذه المصيبة أن تقوم لها قائمة، أو أن ينشط لها أبناؤها في هذه الفترة الوجيزة من الزمان.

فينبغي ألا يكون هناك يأس، فالأمل في الله عز وجل عظيم، والأمل كما أشرت يحتاج إلى العمل، انظر أخي المسلم إلى ما قص الله عز وجل علينا من شأن الأنبياء والمرسلين المصلحين، الذين يغيرون الأحوال بأمر الله سبحانه وتعالى لما بعثهم وأرسلهم إلى أقوامهم: نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما خالطه يأس ولا فتر عن العمل، ولا انقطع منه الأمل، ولذلك حتى في الوقت الذي كان الطوفان قد بدأ ما زال عنده أمل في ابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} [هود:٤٢]، يناديه إلى اللحظات الأخيرة إلى الثواني الأخيرة! والنبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩]، فظل موصولاً بالله سبحانه وتعالى طول عمره، وخرج بعد أن صدت مكة عنه إلى الطائف، ثم وجد بها ما وجد من الأسى ومن المعارضة فرجع، ثم جاءه ملك الجبال مبعوثاً من الله عز وجل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: (لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت)، فيقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، الموصول القلب بالله، العظيم الثقة بالله، العظيم الأمل في وعد الله، الذي يحب الخير للناس: (لا، ولكن لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل)، وقد كان كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

ألم نر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً مطارداً ثم لم يلبث أن عاد إليها بعد أعوام قليلة فاتحاً منتصراً؟