للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب سقوط بغداد على يد التتار]

يقول ابن كثير في وصف تلك الوقعة: جاء التتار إلى بغداد، وجاءت إليه أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة، ومعه أميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله! أول بلاء أن يكون من المسلمين من ينصر أعداء الدين على إخوانه المسلمين، وهذه البلية التي ما يزال المسلمون مبتلون بها في هذا العصر، فترى بعضهم يحالف أعداء الله ضد إخوانه من المسلمين ومن أولياء الله، قال: جاءت إليهم أمداد صاحب الموصل تقدم فروض الولاء والطاعة، وتقدم المعونة والنصرة لهم، فهذا أعظم بلاء وأعظم سبب من أسباب الهزيمة، ثم قال: وأحاطت التتار بدار الخلافة- يعني: قد دخلوا إلى بغداد- يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حضاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً -قبل ذلك لم يكن يعلم من أمره شيئاً- وأحضر السهم الذي رميت به الجارية بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم.

فأمر الخليفة عند ذلك بالاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة.

يعني: أنهم دخلوا البلد ووصلوا إلى دار الخلافة، والخليفة في مجلسه والجارية ترقص بين يديه، فلما جاءها السهم وقتلت فزع فزعاً شديداً، وأمر بالاحتياط والتحرز، وهذه يبين لنا أن هذا الداء من أعظم أسباب البلاء في الأمة المسلمة وكما يقول الشاعر: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص فعندما يكون الذي ينتظر منه الجد والتحفظ والتيقظ، والأخذ بأسباب مصالح المسلمين، ورفع رايتهم، وتحقيق أسباب عزتهم لاهياً ساهياً غافلاً نائماً لا يدري عن أمره شيئاً، فهذه صورة مفزعة، وبمجرد أن يتأمل فيها الإنسان يحكم عليهم بالهزيمة وهو مغمض العينين من غير تفكير.

يقول ابن كثير رحمة الله عليه في وصفه لخليفة الوقت في ترجمته: ولكن كان فيه لين، وعدم يقظة، ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعها إياه الناصر داود بن المعظم، كان قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من الخليفة، وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير.

ولعل سائلاً أن يسأل أين الجيوش؟ كيف دخل التتار ووصلوا إلى دار الخلافة؟ فهذا جواب ابن كثير رحمة الله عليه يقول: وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش قد صرفوا عن إقطاعاتهم- الأجور والرواتب- حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لحالهم، ويحزنون على الإسلام وأهله.

هذا حال الجيش الذي كان في ذلك الوقت؛ لأن الخليفة لم يكن متفرغاً لتقوية الأمة، ولا لإعداد الجيش، ولا لتحقيق قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠]، ولا لتحقيق قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) فكانت هذه جيوش بغداد، الجنود يستعطون ويطلبون العطايا من الناس في الأسواق وأبواب المساجد، فهؤلاء العشرة آلالاف البقية الباقية، إذاً: ضاعت الأمة عندما ضاعت قوتها وهيبتها وشوكتها.

لماذا كان جيش بغداد على هذه الصورة؟ هذا هو السبب الرابع وهو السبب الخطير الذي يسميه الناس اليوم: الطابور الخامس الذي يعمل في الأمة أكثر مما يحتاج الأعداء، ومما يأملون ويتوقعون.

قال ابن كثير: وكل ذلك عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي.

كان وزير الخليفة رافضياً شيعياً خبيثاً متمالئاً مع الأعداء، فهو الذي فعل هذه الأفاعيل، يقول ابن كثير: حصل هناك نزاع بين أهل السنة والشيعة نهبت فيها الكرخ محلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك.

فكان هذا مما أهاجه على أن دبر للإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ أن بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات؛ ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو هذا الرجل، وماذا كان قد صنع من قبل؟ قال: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط أسمائهم من الديوان، فكانت العساكر في أيام المستنصر قريباً من مائة ألف.

وجاء التتار وهم عشرة آلاف من المتسولين! بسبب هذا الوزير الخبيث، قال: فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل ذلك عليهم، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال.

وهذا هو الداء الدوي الذي ينخر في جسم الأمة اليوم عندما يكون في صفوفها أصحاب العقائد المنحرفة التي تسعى جاهدة إلى أن تدمر الأمة، وفي قلوبها من الحقد والضغينة أعظم مما في قلوب الأعداء، وهم أكثر عوناً للأعداء وإخلاصاً من بني جلدتهم -أي: من الأعداء أنفسهم- وهذا هو الذي ذكره ابن كثير رحمة الله عليه.

وسبب خامس يذكره لنا تتمة لهذا السبب قال: لما ذهب الخليفة ليقابل هولاكو ومعه هذا الوزير الرافضي, ومعه أيضاً خادمه نصير الدين الطوسي، وكان هذا نصير الدين الطوسي عند هولاكو، وقد استصحبه عندما فتح بعض قلاع المسلمين.

وكان نصير الدين ممن ينسبون إلى المستنصر العبيدي، ويريدون أن يجددوا الدولة العبيدية التي أزالها صلاح الدين بجهاده الذي أشرنا إليه، قال ابن كثير رحمة الله عليه: وكانوا يريدون إبطال السنة، وإقامة الرفض، وإقامة خليفة من العبيديين، ولكن الله سبحانه وتعالى ما أمهلهم حتى مات هذا الوزير الرافضي في العام نفسه، ثم لحقه ابنه بعده بستة أشهر! ثم يقول ابن كثير: ولم ينج أحد من الناس سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ممن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي.

إذاً: كانوا صفوفاً وطوابير خامسة، ويمالئون الأعداء، ولذلك لم يصبهم ضرر، هؤلاء الذين يظهرون لنا أنهم أولياء وأحباء، لا يؤمن غير المسلم على أمة الإسلام أبداً، لا في دينها وعقيدتها، ولا في مقدراتها وثرواتها، ولا في أوضاعها وأحوالها وأخلاقها مطلقاً، وهذا التاريخ هو الذي يحدثنا بذلك حديثاً شافياً واضحاً.

ثم وصف ابن كثير رحمة الله عليه ما وقع من الهول الشديد، حيث كان الناس يقتلون ويبادون، أربعون يوماً والسيف يعمل في أهل بغداد، وكانوا يهربون إلى الأسطحة فيقتلونهم في الأسطحة حتى سالت ميازيب بغداد من دماء المسلمين! قال رحمة الله عليه: عدة من مات من المسلمين: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف -يعني: مليون- وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف.

وهذا يدل على عظيم الهول.