للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقدمة عن حقيقة العظمة ومعناها ونصيب النبي عليه الصلاة والسلام منها]

الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، له الحمد سبحانه وتعالى لا يضل من استهداه، ولا يحرم من استعطاه، ولا يخيب من رجاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير أرحام تربطنا، ولا مصالح تجمعنا، أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم موضوع جليل، فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام كان قمة سامقة تتقاصر دونها القمم، وكانت مكانته رفيعة تتوارى معها المكانة والمنزلة مهما علت وسمت، وكما نرى النجم مضيئاً مشعاً وله جماله وبهاؤه فإذا أشرقت الشمس لم يعد له أثر، فكذلك كل عظمة وكل قدر وكل مكانة لأحد من الخلق هي دون مقام وعظمة ومكانة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ولا شك أنه شرف عظيم لنا جميعاً المتحدث والسامع أن نطرق مثل هذا الموضوع، نشنف به آذاننا، ونسعد به نفوسنا، ونشرح به صدورنا، فإن ذكر الله جل وعلا وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة حق ومقام وقدر ذات الله سبحانه وتعالى، والوقوف على مكانة وقدر رسوله صلى الله عليه وسلم مما يحيي القلوب، ويهذب النفوس، ويقوي العزائم، وقد أسلفنا حديثاً في مفتتح هذه السلسلة المباركة عن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة، بل منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة؛ وذلك لأن كل محب ليس معظماً، فأنت ترى الوالد يحب ولده ولكنه حب تكريم وليس حب تعظيم، وحب حنو ورحمة وليس حب إجلال وتقدير وتبجيل.

فلذلك إذا جمع العبد المؤمن تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم المحبة التي أسلفنا القول فيها ثم توجها وكملها أو أسسها وبناها على قاعدة التعظيم والتوقير للمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكون قد نال حظاً عظيماً وشرفاً كبيراً، وأتى على أمر من الأمور التي هي من أصول إيمانه، وقواعد إسلامه، ومنطلقات التزامه، ولذلك ينبغي لنا أن نفرح وأن نسعد وأن نفخر بما وفقنا الله جل وعلا إليه من الحديث في مثل هذا الموضوع، والله جل وعلا قد نادانا وذكرنا في سياق آياته إلى أهمية تعظيم وتوقير وتعزير رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:١٥٧] فالمعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمرة المفلحين بإذن الله جل وعلا.

والتعزير كلمة معناها التعظيم والنصر، والتوقير كما جاء في معجم مقاييس اللغة: أصل يدل على ثقل في الشيء، فإذا قلت: إنك توقر فلاناً فمعنى ذلك أنه ذا ثقل وذا مكانة، ومنه الوقار: وهو الحلم والرزانة التي تدل على رزانة الإنسان وعدم خفته وطيشه، ووقرت الرجل إذا عظمته، ومنه قوله جل وعلا: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:٩] كما أسلفنا، والتوقير أيضاً بمعنى: التبجيل والتعظيم.

قال ابن جرير في تفسيره: فأما التوقير والتعظيم فهو الإجلال والتفخيم.

وقال ابن تيمية رحمه الله: التوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه من كل ما يخرجه عن حد الوقار، ولذلك تأتي هذه الكلمات كلها بمعنىً مترادف.

أحبتي الكرام! إن الحديث عن عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا تمكن الإحاطة به، كما لا يمكن أن يجمع ماء البحر في كأس؛ فإن جوانب عظمته، ووجوه رفعة قدره وصور علو مكانته أكثر وأعظم وأشهر وأوسع من أن يحيط بها حديث في مثل هذا المقام، بل قد صنف العلماء ودونوا وتوسعوا وجمعوا وأوعوا، وما جاء ما فعلوه كذلك على ما كان وما ينبغي أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك عندما طرقت هذا الموضوع وجدت أنه لا بد لنا أن نقتصر ونختصر منه ما لعله يفي بهذا المقام، ويتناسب مع هذا الوقت، ومن هنا أردت أولاً أن نبدأ بشيء يتعلق بالمعنى والدلالة، وبالفائدة والأثر فهذا الذي أوجزناه من المعنى مقصودنا به بيان الكلام الذي يأتي عن هذه العظمة ووجوهها، ثم إن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين أساسين اثنين سنقسم الحديث عنهما لاحقاً: عظمة في ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام، وما كان له من الخصائص، وما عرف به من الشمائل، وما سجلته سيرته من المواقف، وما سمت به شخصيته في كل جوانب الحياة المختلفة.

وجانب آخر -وهو في تصوري أعظم وأكبر- وهو جانب عظمة الإنجاز والثمرة، قد يكون لي خصيصة، قد يكون لي شرف نسب، قد يكون لي كثير علم، قد يكون عندي بعض الذكاء والفطنة، لكن ذلك وإن كان من وجوه العظمة لا يغني شيئاً ما لم يثمر ذلك كله نتيجةً وإنجازاً.

وفعله عليه الصلاة والسلام وأثره الباقي إلى قيام الساعة أعظم وجوه عظمته كما سيأتي.