للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب ذكر قصص السلف الأوائل]

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة.

ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة.

أما بعد: فنسأل الله جل وعلا أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا للحق والصواب، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يملأ قلوبنا بحبه وحب نبيه، وحب كل من يقربنا إلى حبه، وأن يلهمنا طاعته، وأن يقينا ويسلمنا من معاصيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونحمد الله جل وعلا على تجدد هذا اللقاء، وموعدنا فيه مع الدرس الخامس والثلاثين بعد المائة الأولى، وعنوان هذا الدرس: قمم ورجال.

ونحن في هذه الأعصر قد ضعف في الغالب إيماننا، ووهت في الأكثر عزائمنا، وتخلخلت عند الكثيرين العزائم، وصار الناس -إلا من رحم الله- يرضون بالأقل الأدنى، ويتركون الأكثر الأعلى؛ لأنهم إما قد شغلوا بسفاسف الأمور وتوافهها، وإما أنهم لم يجدوا على الطريق قدوات تشعل في قلوبهم الحماسة، وتذكي في نفوسهم الغيرة للمبادرة إلى ميادين الخير والسباق إلى قمم العلاء والرفعة، وذرى المجد والعز التي تسنمها أسلافنا رحمة الله عليهم أجمعين.

وفي هذا المقام نطوف في صفحات التاريخ، وفي تراجم الرجال لنقف على بعض سير القوم الذين بلغوا الذرى في معالي الأمور ومهماتها، ونالوا قصب السبق في ميادين الخير وطرقاتها من أولئك الأسلاف الذين سجل التاريخ وقائع حياتهم وكلماتهم بمداد من ذهب على صفحات من نور، ذلك أنهم أثمر إيمانهم، وأزهر إسلامهم، وجاءت في سيرتهم تلك المعاني العظيمة والمواقف الكريمة التي ارتقوا بها قمماً كثيرةً في الإيمان والإخلاص والصبر والجهاد والإنفاق وحفظ الأوقات والثبات، ونحو ذلك من من الأمور الكثيرة.

فلعلنا أن نعرج على بعض هذه القمم، ونقف مع بعض رجالها؛ لننظر في هذه القيم والسير ما لعله يحيي قلوبنا، ويهيج إلى مثل هذه المعالي نفوسنا، ولعلها أيضاً قصص وسير تحسن في نفوسنا، وتبقى وتخلد في عقولنا، فنثيرها في مجالسنا، ونذكرها لأحبابنا، ونعلمها ونلقنها لأبنائنا بدلاً من أن تكون القمم اليوم هي القمم التافهة الدنية الرخيصة، والتي نستمع ونقرأ في أحايين كثيرة عنها، فإذا بقمة للفن، وقمة لكذا، وقمة لكذا، وتنصرف الأذهان إلى من شغل هذه القمة، ومن الذي سيخلف صاحب هذه القمة في قمته، وكلها ليس لها من القمم أصل ولا وصل ولا سبب ولا نسب، وإنما هي الموازين التي انعكست، والقيم التي ارتكست، والأهواء التي استحكمت في الناس وشاعت في مجتمعات كثير من المسلمين، نسأل الله عز وجل السلامة منها.

وكنت تصفحت كثيراً في كتب مختلفة من كتب التراجم، بعضها عام وبعضها خاص في مواضيع بعينيها، وكلما قرأت وجدت أن البحر ممتد، وأن الأمواج المتلاطمة كثيرة، وأن مثل هذه السير كبحر لا ساحل له ولا قعر، وأن من أراد أن يعيش في سير السابقين لينظر إلى تراثهم وأمجادهم فإنه ينقضي عمره دون أن يحيط بشيء يسير مما سطروه وخلدوه من المآثر العظيمة؛ ولذا سنمضي مع هذه السير والقمم والرجال على غير نسق ولا نوع من الضبط أو التركيز فيها، وإنما نمضي مع بعض قمم وبعض رجالاتها، ثم نخلص إلى غيرها؛ حتى ننتفع، وليس فيما سأذكره مجال كبير للتعليق، فإن مثل هذه القصص فيها من العظة والعبرة ما يغني عن كثرة التعليق عليها.