للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استدراك ما فات واغتنام رمضان قبل الفوات]

إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، ومن كان قد أحسن فعليه بالتمام، ومن كان قد فرط، فليتدارك في حسن الختام، وإنما العبرة بالختام.

سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفاني حري بنا أن نبكي على أنفسنا دماً لا دموعاً إذا فرطنا في هذه الأيام، قد نقول بعد أسبوع أو بعد مضي الشهر: ليتنا فعلنا، ليتنا لم نفعل! قلها الآن وأنت ما زلت في هذه الأيام، وما زال بينك وبين الشهر سبعة أيام، قل ذلك قبل أن تقوله بعد فوات الأوان، وقبل أن تقوله بعد ألا يكون رمضان، أو بعد ألا تكون عشر ولا ليلة قدر، ولا عتق من النيران اختص به هذا الشهر لمزيد فضل وزيادة أجر وعظيم مضاعفة للثواب.

فهذه نعمة الله، وإننا أحياناً نصنع صنيع الحمقى والمغفلين، فنترك ما بأيدينا ونتحسر عليه من بعد، ونفرط فيما ساقه الله عز وجل من رحمته وفضله إلينا، ثم نعض أصابع الندم عليه، وليس ذلك مرة واحدة بل مرات، وليس موسماً واحداً بل مواسم، وليس عاماً واحداً بل أعوام، ونجدد القول مرة أخرى ونقول: سنجتهد في عام قادم.

ويأتي رمضان القادم، فلا أقول إنه يكون شراً من الذي قبله، لكن التغير والتغيير يكاد يكون غير ملموس، فهل عميت القلوب؟ هل ماتت النفوس؟ هل ضلت العقول؟ هل لم يعد لنا في حالنا وتذكرنا واتعاظنا ومواسم الخير التي يسوقها إلينا ربنا فرصة لنغير؟! ومتى يتذكر الغافل إن لم يتذكر في هذه الأيام؟ ومتى يقوم النائم إن لم يقم في هذه الليالي؟ ومتى يدع المذنب الذنب إن لم يدعه في هذا الموسم؟ ومتى يبكي الواحد منا على حاله وذنبه إن لم يبك في هذه الأيام والليالي؟ جدير بنا أن نتنبه حتى لا نندم بعد فوات الفرصة العظيمة من بين أيدينا: أتترك من تحب وأنت جار وتطلبهم وقد بعد المزار وتبكي بعد نعيهم اشتياقاً وتسأل في المنازل أين ساروا تركت سؤالهم وهم حضور وترجو أن تخبرك الديار فنفسك لُم ولا تلم المطايا ومت كمداً فليس لك اعتذار سنعض أصابع الندم عضاً شديداً إن نحن فرطنا في هذه الأيام التي نحن فيها، والليالي التي نحن نتفيأ ظلالها، ونستنير بأنوارها، ونترقب فيها ليلة القدر العظيمة.

كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، وكان ذلك -كما قال العلماء- قطعاً لانشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه، وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجز حصيراً يتخلى فيه عن الناس فلا يخالطهم، ولا يشتغل بهم.

ومعنى الاعتكاف كما قال أهل الإيمان: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق.