للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سلطان العلماء وبائع الأمراء]

وأبدأ بمواقف شهيرة لرجل عظيم عرفه تاريخ الإسلام وسجل سيرته ومآثره؛ لأنه أعطى ووقف المواقف المشرفة، وهو العز بن عبد السلام، سلطان العلماء وبائع الملوك كما اشتهر في التاريخ، رجل من أهل العلم يتوقد قلبه غيرة على الإسلام، وتفيض نفسه حمية لنصرته، وتأبى عزته وكرامته أن يذل أو أن يلين.

تلقى العلم حتى تفوق في أصوله وفروعه، ثم ولي الخطابة في الجامع الأموي بدمشق، فصار يبلغ دين الله ويحيي في القلوب المعاني الإسلامية الإيمانية العظيمة، لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمنعه من قولة الحق خوف مضرة.

لما وقع من أمير الشام الملك الصالح إسماعيل انحراف عظيم لوضع يده في يد النصارى المسيحيين ضد ملك المسلمين في مصر الملك الصالح أيوب، وكان ثمن هذه الصفقة الخاسرة أن سلم للنصارى صفد وصيدا وغيرها من البلاد، فنطق لسان الحق وظهرت غيرة الإيمان، وتجلت حمية الإسلام في العز بن عبد السلام، فأنكر ذلك وصرح به، وجلّى موقف الإسلام وأبدى أحكامه في شأن هذا الولاء للأعداء والموالاة لهم ضد المسلمين.

وحين قال كلمة الحق عزل عن خطابته، وأقصي من منصبه، فما كان منه بعد ذلك إلا أن حمل متاعه وزاده، ورأى أن لا مقام له ببلد لا يستطيع أن يقول فيه الحق ولا أن يبلغ الدين، فانطلق إلى مصر، فبلغها واستقبله ملكها وأعظم قدره ورفع مكانه، وجعله قاضي القضاة، وجعله خطيباً.

ثم لما نظر في حال مصر وجد أن جل الأمراء الذين يستعين بهم الملك الصالح هم من المماليك الذين غلبوا على الحكم في مصر، وهم أرقاء عبيد، فقال قولة الحق: إن هؤلاء لا تصح لهم ولاية، ولا يصلح منهم في حكم الشرع تصرف في بيع ولا شراء، وسارت فتاواه بذلك، وبلغت إلى نائب الحاكم في مصر وهو من أولئك المماليك، فاشتاط غضباً، ثم مضى إلى الملك الصالح أيوب يشكو هذا العالم، فاستدعاه فسمع منه ولم يعجبه قوله؛ لأنه يعني أن جل المسئولين سيكونون تحت هذه الدائرة، وكان بينهما حديث، فكأن الملك زاد في غلظة قوله بأنه ليس هذا من اختصاصك ولا من شأنك، فخرج العز بن عبد السلام ولم يصنع شيئاً، إلا أنه عزم مرة أخرى على أن يشد رحاله ويضرب في أرض الله عز وجل، وأدرك ملك مصر فداحة الأمر وخطورته، وأن ذلك سيكون له في الناس أثر عظيم، فأرسل إليه يستعطفه ويستلطفه ويعتذر منه، فقبل بشرط واحد وهو: أن يمضي حكم الله في أولئك بأن يجعل حريتهم صحيحة بطريق شرعي.

وكيف ذلك؟ بأن ينادي عليهم بيعاً ويزيد في سعرهم، فيشتريهم الملك ويشتريهم بعض من يرى ذلك فيعتقهم، ويكون المال لبيت مال المسلمين، وجرى الحراج على الأمراء، وسمي من بعد: (بائع الملوك وسلطان العلماء)، وأنفذ أمره وقرر ما حكم به شرع الإسلام، ثم كان الأمر من بعد على ما كان من أمر العز بن عبد السلام رحمه الله ورضي الله عنه.

وهذه صورة تدلنا على المواقف العظيمة التي يقفها العلماء الصادقون المخلصون الذين ملئت قلوبهم بالإيمان واليقين، فلم يكن فيها مساحة لتمتلئ بالدنيا وتعظيم أهلها، أو الخوف من أمرائها وذوي السلطان فيها، وذلك ما كان منه رحمه الله ورضي الله عنه، حتى إنه عندما دعا الظاهر بيبرس لمبايعته أعاد عليه القول في صحة حريته، فأخرج له ما يثبت ذلك، فبايعه مع عموم الناس.

وذلك أمر بين، وسمت معلوم عند من يعرف حقيقة الدين، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، وكذلك ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، ومن قبل جاء قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:١٠٨].