للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الثبات والإصرار]

النتيجة الثالثة: الثبات والإصرار، فكثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن، ومع استمرارية العمل، والنفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالباً ينقطع صاحبها عن عمله، وينقطع بعد ذلك أثره، ويطوى خبره؛ لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير، فمن مزايا الحماسة في الشباب أنها تعطيهم قوة وثباتاً بشكل منقطع النظير.

فهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرأ القرآن في مسجده كل يوم مدة أربعين عاماً، وهو أمير، وهو يتولى الحكم، لكنه كان في صفته وسمته ظل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل، فالقضية ليست قضية ردود أفعال، ولا سحابة صيف تنقشع، ولا أمراً أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها، كما نرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات العاطفية، خاصة ونحن في عصر عولمة وإعلام وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثاً كبيراً.

وحبيب بن زيد رضي الله عنه -وهو من أمثلة الشباب- لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب ثبت، وكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

فيقول له مسيلمة: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله.

فيقول: لا أسمع.

وإذا بـ مسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه، فيقطع أذنه، ويقطع أنفه، وجعل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه.

وهذا مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتىً أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير) لما دخل الإيمان في قلبه وتمكن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة، ولم يتغير له موقف، ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها رضي الله عنه وأرضاه، حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل، بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنوات طوالاً بعد استشهاد مصعب بن عمير رضي الله عنه، كما ورد من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائماً، وأتي له بطعام الإفطار، وكان فيه صنفان من الطعام، فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فتعجب الناس وقالوا: ما يبكيك؟! قال: (ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد، ويوم مات لم نجد ما نكفنه به إلا بردة، إن غطينا رأسه بدت رجلاه، وإن غطينا رجليه بدا رأسه، وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا).

وهكذا بقي موقف جعفر في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه، فقطعت فضمها بعضديه، حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ.