للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الإتلاف]

الجانب الثالث: الإتلاف، فقد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ، ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحياناً قد تصل إلى شيء من تغييب العقل وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية، ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم، وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة، ولا الشعور، ولا ردود الأفعال، ولا الانتصار للذات، وإنما الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها: الأول: حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما كان واجباً أمضيناه، وما كان محرماً تركناه، ويلحق به ويكمله مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر؛ فإن من الأمور ما قد يكون واجباً أو قد يكون مباحاً لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم، وقد يكون فعله في هذا الموطن محرماً وإن كان في أصله واجباً، وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها، وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وغير ذلك من القواعد المعروفة.

فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها.

ولعلي هنا أيضاً أركز على هذا المعنى؛ لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف فلا تكاد تفهم حقائق النصوص، وإذا تأملنا في هذا الجانب فثمة أمر مهم سوف نذكره لأنه من دين الله، ولابد أن نفقه ديننا، وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله عز وجل، وأنه لابد لنا من أن نتأمل في حكمة الشارع؛ لأن الشارع معصوم، سواء أكان ذلك في كتاب الله أم فيما ثبت من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولعلي أخص هنا موضعاً محدداً من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين، فهناك طائفة كبيرة وكثيرة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم، وكيف يكون التعامل في هذا الشأن.

وأقول: إن الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فليست القضية قضية عاطفية، وقد ذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام، وهذه الأحاديث فيها ضبط شديد، وفيها تحوط كبير، وربما كان في صورتها الظاهرة أنها تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون، فعلى سبيل المثال في بعض ما صح من هذه الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر).

وفي الرواية الأخرى من حديث حذيفة قال: (وإن جلد ظهره وأخذ ماله).

وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتنة فقال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث: يا رسول الله! أرأيت إن أتي به إلى الصفين؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فليدق سيفه) يعني: فليتلف سيفه.

حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال.

ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها بعض الناس على أنها سلبية مطلقة، وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عمومات أخرى في دين الإسلام، ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع.

وقد نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال في كتابه " الاعتصام بالكتاب والسنة " -وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذه الأوامر- أنه قال: فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء؛ لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة، وتكونت البلية، وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجوداً بمثل هذا الأمر.

ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية، كلا! فدين الله عز وجل واضح لا يغيره أحد، وما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك أحد تغييره ولا تبديله، وذلك من فضل الله ونعمته علينا، فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع، وانظر إلى هذه الأمثلة: فهذا حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب ليرى خبر الأحزاب، خبر أبي سفيان ومن معه من قريش والقبائل، فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة، يقول حذيفة وهو يصف ذلك: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي، إلا أني ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحدث شيئاً حتى ترجع).

وأبو سفيان يومئذ كان رأس الكفر، وكان هو قائد الأحزاب، وكان في مرمى سهمه ومناله، لكنه التزم ذلك الأمر، والأمر قطعاً كانت فيه الحكمة، وهو إرشاد بوحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤].

ومجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد، وبعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا أتته رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض في نفق فيه ماء، فقال سعد لـ مجزأة: (انظر لي رجلاً من قومك خفيفاً جريئاً شجاعاً).

فقال: اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير.

فقال له: (لا تحدث شيئاً) فدخل وخاض الماء، قال: فخلصت حتى رأيت الهرمزان، ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قولك.

فرجع وأخذ ثلاثمائة كلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا الحصن من الداخل.

فالقضية ليست اندفاعات عاطفية، وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولية، فينبغي أن نعرفها.