للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصفة الثالثة: الصبر والحكمة]

إن مسألة استيعاب الناس ليست مسألة هينة، فهذا يريد أن يأخذ جواب سؤاله، وذاك يريد أن يأخذ حل مشكلته، والآخر يريد أن يأخذ الرأي في معضلته، وهذا يريد وقتاً خاصاً، وذاك يريد لقاءً موسعاً، والآخر يريد دعوة عامة، وهذا يريد احتفاء في مناسبة، وأمورٌ كثيرة جداً قد وقع مثلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنافس الصحابة في أن يأخذوا مواعيد خاصة ومقابلات شخصية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل النهي والتذكير للصحابة رضوان الله عليهم عن الأثر السلبي لهذا، فامتنعوا بعد ذلك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده صبر عجيب، تأخذه المرأة العجوز التي ربما لا نرى اليوم لها قيمة واعتباراً، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل البشر ورأس الدولة وإمام الأمة، تأخذه -كما ورد في الأحاديث الصحيحة- فتقوده إلى أي سكة شاءت فتخلو به حتى يقضي حاجتها، أما الذي يتبرم بالناس ويضيق بهم ذرعاً ولا يحتملهم، ولا يريد أن يعطيهم من وقته، ولا أن يبذل لهم شيئاً من مشاعره، ولا أن يحسن كيفية استقبالهم، وكيفية الاعتذار منهم إذا أراد الاعتذار فإنه لا يمكن أن يستوعب الناس، بل في الغالب أن الناس ينفرون منه على غرار ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أضاع دابته، فجعل الناس يريدون أن يعيدوها له، فهذا يسوقها من هنا، وهذا يصيح بها من هنا، فلو أنهم خلوا بينه وبينها لتلمس لها شيئاً من القوت فاستطاع أن يتألفها وأن يأخذها، ولذلك في الناس كثيرون من أصحاب الحاجات، وفي الناس كثيرون من أصحاب الجهالات، ولابد للداعية الذي يريد أن يستوعب من أن يكون واسع الصدر، وأن يكون عظيم الصبر، ولذلك الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:١٥٣]، وجاء في وصف الناجين من الخسران: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].

والحكمة -أيضاً- مطلوبة، فإنه قد يضيق الوقت، وقد لا يمكن بذل الجهد، لكن لابد من أن يكون هناك الحكمة التي يخلص بها الداعية مما يطلب منه ولا يستطيعه في صورة مؤدبة وحكيمة، فقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام حكيم بن حزام فسأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه أي: طلب حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصده ولا يمنع عنه عطاءه؛ لأنه يريد أن يكسب القلوب وأن يتألفها، وأن يجعل القلوب تتعلق بالداعية الذي يمثل الدعوة ويمثل القدوة، بل قال له عليه الصلاة والسلام: (يا حكيم! إن المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه) كلمات مؤدبة وموجهة ومربية، فقال حكيم -وقد كان حكيماً رضي الله عنه وكان لبيباً تغنيه الإشارة عن العبارة- قال: (والله لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً يا رسول الله) يعني: لا أسأل أحداً بعدك شيئاً، فلما جاء عهد عمر وأراد أن يعطيه من العطاء الذي له من حقه في بيت مال المسلمين قال: (لا أرزأ أحداً شيئاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأبى أن يأخذ عطاءه رضي الله عنه.

فلابد من الصبر والحكمة عندما يجهل الجاهل، وعندما يخطئ السائل، وعندما يعترض المعترض، لابد من أن يكون مع الصبر حكمة تسدده وتصوبه.