للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نفوس أبية وحماسة متقدة]

فلننظر إلى المجتمع المسلم عندما تحل به الظروف العصيبة، عندما تحيط به الأخطار، عندما تأتي الأخبار بأن الأعداء على الأبواب، وبأن حرباً ضروساً يوشك غبارها أن يصل إليهم.

استمعوا إلى هذه المواقف التي هي في حقيقتها غنية عن كل تعليق: كان ممن تحدث حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم أسد الله وأسد رسوله، ومعه سعد بن عبادة سيد من سادات الأنصار، والنعمان بن مالك، فكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت في بدر في ثلاثمائة رجل فأظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير قد كنا نتشوق لهذا اليوم وندعو به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مائلاً لهذا الرأي، فقام مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين: إما أن يظفرنا الله بهم، فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة كوقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، أو الأخرى يا رسول الله! فإنها والله الشهادة، والله يا رسول الله! ما أبالي أين كنا إن كانت الشهادة يا رسول الله! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) وكان حمزة رضي الله عنه كما قال أهل السير صائماً في يوم الجمعة، وكذلك كان صائماً في يوم السبت يوم غزوة أحد نفسها، فقال: (والله يا رسول الله! والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أناجزهم بسيفي خارجاً من المدينة، ثم قام النعمان بن مالك فقال: (يا رسول الله! أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك، فلم تحرمنا الجنة؟ فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله، ولا أولي يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت).

وكان النعمان من شهداء أحد.

ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: (جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـ سعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد؟ فجاء قول سعد: لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً.

فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها من العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا -، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله)، وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بنو عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله! أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله! لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله! قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله).

مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجع بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال.

أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثير من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق، لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واه لريح الجنة والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لأن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع) تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم، والأعداء -لا أقول: قريبون منا- قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دخلوا إلى مواقع ديارنا إلا ما رحم الله، هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً.

إن تلك الجيوش الضخمة التي ما يزال يعلن عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة.

إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٧]، وقال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩].

كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا، كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال.

وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة.

هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟