للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عظم عقوق الوالدين وعقوبة العاق]

ولعلي هنا أقف وقفة أحسب أن الجميع سيكون ملتفتاً إليها، فهل بعد هذه الوجوه وبعد هذه الآيات الواضحات والأحاديث الصحيحة والصور المشرقة العملية التي كانت في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل يتصور أحد أنه يخطر في البال عقوق للوالدين؟ وهل يمكن بعد هذا كله أن يكون في النفس متسع أو في القلب مجال لقسوة أو غلظة؟ وهل يمكن بعد هذا كله أن يلفظ اللسان بما لا يليق؟ إن العقوق بعد هذا كله يظهر تماماً على أنه الأَمُ وأشد وأسوأ ما يمكن أن يصدر عن الإنسان، إنه يكشف حينئذ عن انحراف في الفطرة، وضعف واختلال في الإيمان، ونقص في حقيقة التمثل والالتزام بالإسلام، إنه يدل على انفصام بين كليات هذا الدين وحقائقه الكبرى وهداياته العظمى التي تنزلت بها الآيات وجاءت بها الأحاديث، ولذلك قال بعض أهل التفسير في هذا الموطن في تفسير قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:٨٣] قالوا: جاء بالأمر وليس بالنهي عن العقوق.

قال القرطبي: لأنه لا يتصور العقوق في حق الوالدين.

كيف يمكن أن يتصور عقوقك لامرأة حملتك في بطنها تسعة أشهر، وأرضعتك عامين، وظلت تغذوك بحنانها وعطفها، فتسهر ليلها، وتمرض في تمريضك، ويشغل بالها أمرك أكثر مما يعنيها أو يشقيها أو يتعبها شيء يتصل بها؟! إن الإنسان الذي يجحد بعد ذلك أو يعق يمثل الصورة الشوهاء للانحراف السيء في غاية السوء، ومن هنا جاء الأمر بالإحسان، كما قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:٨٣] وكذلك ذكر الآيات الكثيرة كقوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:١٥] وذكر ذلك على التفصيل كما هو في الآيات، وكما جاء في الحديث: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك.

قال: ثم من؟ قال: أمك.

قال: ثم من؟ قال: أمك.

قال: ثم من؟ قال: أبوك) فقال أهل العلم: لبر الأم ثلاثة أرباع وربع للأب.

وقالوا: لأنها حملت وولدت وأرضعت، وهذه كلها لا يشاركها فيها الأب، وإن كان حق الوالدين جميعاً عظيماً.

لذلك كان من المتوقع ومن البدهي أنَّ من يخرج عن هذه الأوامر الربانية وهذه السنن النبوية أنه قد خالف الدين مخالفة عظيمة تستوجب له وعيداً خطيراً، ومن هنا وجدنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر مقترناً بأعظم ذنب في الوجود كله، والحديث في هذا معلوم، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى، يا رسول الله.

قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين.

وكان متكئاً فجلس فقال: وشهادة الزور، وشهادة الزور.

فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) فأكبر الكبائر وأعظم الذنوب على الإطلاق ثانياً وتالياً بعد الشرك بالله عز وجل هو عقوق الوالدين.

وما الذي تخشاه؟ وما الذي تخاف منه في هذه الدنيا؟ أليس حرمان رضوان الله؟ أليس الخوف من عذاب الله؟ إن الذي يخوض في هذا المضمار يستوجب الوعيد الشديد، فقد روي عن النبي صلى الله عيه وسلم في حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة) والديوث هو الذي يرضى السوء في أهله، والرجلة هي المرأة المتشبهة بالرجال.

رواه الحاكم وصححه، ورواه البزار بإسناد جيد.

بل إن الأمر يرى رأي العين، فإنه ما من ذنب إلا وقد يؤجل عذابه أو يقدم إلا ذنبين اثنين لابد أن يكون لهما عقوبة معجلة وإن بقيت لهما عقوبة مؤجلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أنس رضي الله عنه: (بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وفي رواية أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) وترجم البخاري في الأدب المفرد لهذا الحديث بقوله: (باب عقوبة عقوق الوالدين).

وعقوق الوالدين أعظم القطيعة للرحم، فأي شيء بعد هذا يمكن أن يقال؟ وأي قول بعد قول الله وبعد قول رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما هو واقعنا اليوم؟ فكم نسمع من قصص مبكية محزنة مؤلمة! وكم نرى من صور عجيبة غريبة شاذة!