للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وصايا عامة لأهل القرآن]

ثم ننتقل أيها الإخوة الأحبة بعد أن ذكرنا أنفسنا بمنزلة أهل القرآن والتعريف بهم، إلى الشق الثاني المهم، وهو: التوجيه بالوصايا لأهل القرآن، وأولها الوصايا العامة: أولاً: الإخلاص.

وأهميته لا تخفى؛ فهو أول الأمر وآخره، وأوسطه وجوهره, ولا شك أن الأمر بدءاً بدونه لا قيمة له، ومن لطيف ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب الفوائد أنه قال: العمل بغير إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً، يثقله ولا ينفعه، يتعب بدون نفع ولا فائدة.

ثانياً: ألا يحرموا أنفسهم علوم القرآن، فلئن حفظت فجود، ولئن جودت ففسر، ولئن فسّرت فتعلم البلاغة، ولئن تعلمت البلاغة فعليك بأسباب النزول، وخذ حظك، فإنه لا يشبع منه أحد، ولا يمكن أن يصدر عن منهله أحد مطلقاً، وحسبك في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح: والله الذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه.

ثالثاً: العمل بالعلم، فإن هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، فكل مرتبط بالقرآن لابد أن يستشعر هذه المسئولية، أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخراً، وكائن لكم أجراً، وكائن عليكم وزراً -يعني: بحسب ما تعملون به أو تتخلفون عنه- فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن يهبط به في رياض الجنة، ومن يتبعه القرآن يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم.

وهذا لا شك أنه من الأمور المهمة التي نحتاجها، وقد كان هذا دأب الصحابة، قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نعرف ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معاً.

ولئن كان هذا الأمر غير متيسر ولا مأخوذ به فلا ضير أن تقرأ وأن تحفظ وأن تراجع، لكن لا تحرم نفسك من أن تستزيد وأن تتعلم، وأنت ملزم أن تعمل بما علمت.

رابعاً: أن تطلب بصلتك بالقرآن الآخرة لا الدنيا، فإن أردت أن تحفظ فاجعل حفظك لله، وإن علّمت فاجعل تعليمك لله، فإن أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة: قارئ للقرآن، يأتي به الله عز وجل فيسأله: (فيم قرأت القرآن؟ فيقول: فيك -يا رب- قرأتُ القرآن وعلمتُه، فيقال: كلا! بل فعلت ذلك ليقال: قارئ، وقد قيل، فيؤمر به فيلقى في جهنم) فاطلب وجه الله عز وجل بقراءتك وتلاوتك وحفظك وتدريسك.

وهذا أبو إياس معاوية بن قرة كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه يقول: كنت نازلاً على عمرو بن النعمان بن مقرن، فلما حضر رمضان جاءه رجل بألفي درهم من قِبَل مصعب بن الزبير، فقال: إن الأمير يقرئك السلام ويقول: إنا لا ندع قارئاً شريفاً إلا وقد وصل إليه منا معروفاً، فاستعن بهذه على نفقة شهرك هذا، فقال عمرو: اقرأ على الأمير السلام وقل له: والله ما قرأنا القرآن نريد به الدنيا.

وردّ عليه ما آتاه!! فهكذا كان أهل القرآن.

وفي حديث عمران بن الحصين أنه مرّ على قاص يقرأ القرآن، ثم سأل -أي: طلب من الناس مالاً كما يصنع بعض الناس اليوم عندما يقرءون قراءات التطريب والتنغيم، ثم يبسطون أرديتهم ليضع الناس فيها أموالاً، فهؤلاء القراء يتكسبون بتلاوة القرآن!! - فلما رأى عمران بن الحصين ذلك استرجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) والحديث في مسند الإمام أحمد، فلا تكن هذا الذي ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه كائن في أمته في آخر هذا الزمن.

خامساً: تحسين الصوت وحسن التلاوة.

اجتهد في ذلك ما استطعت فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) ونعلم أن النبي قال لـ أبي موسى الأشعري: (إنك أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) فاجعل من أهدافك أن تحسن بالقرآن صوتك، وأن تزين صوتك بالقرآن، فإن ذلك مما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) أخرجه ابن حبان في صحيحه.

وجاء في صحيح ابن حبان من حديث أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـ أبي بكر رضي الله عنه وهو يصلي خافضاً صوته -أي: بالقراءة- ومر بـ عمر يصلي رافعاً صوته رضي الله عنه، قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك، قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ، قال: ومررت بك يا عمر وأنت ترفع صوتك، فقال: يا رسول الله! أوقظ الوسنان وأحتسب به، فقال النبي لـ أبي بكر: ارفع من صوتك شيئاً، وقال لـ عمر: اخفض من صوتك شيئاً) فكن بين بين، وحسّن بهذا القرآن صوتك، وأسمعه الناس كما كان ابن مسعود يغشى به مجالس كفار مكة حتى يسمعهم كلام الله عز وجل.

سادساً: المنافحة والدفاع عن القرآن.

إذا كنت من أهل القرآن فلا بد أن تكون من الدعاة إلى القرآن، ومن المدافعين عن القرآن والمنافحين عنه، ولا ينبغي لك أن تسكت عمن يتهجم على القرآن، أو يستهزئ به، فإن سكتّ على هؤلاء فلست في الحقيقة من أهل القرآن؛ لأن من قدّر القرآن وجمعه في صدره وحفظه في قلبه فإنه يعز عليه أن يهجره الناس، فضلاً عن أن يتهجموا أو يعتدوا على القرآن، وحسبك في ذلك مواقف الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ومن ألطف وأبهر المواقف ما كان من عمر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: (أن عمر كان في المسجد، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يقرؤها قراءة لا يعرفها عمر - فكدت أساوره في الصلاة -أي: كدت أقطع عليه الصلاة-، فلما قضى صلاته لببّته بردائه وقلت: من أقرأك هذه السورة؟! قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: كذبت -أي: أخطأت- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما سمعتك تقرأ، قال: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله، فلما جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأبلغه الخبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فلما قرأ هشام قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)، وبين له أن هذا وهذا كله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سابعاً: التميز في الشخصية، فأنت تحمل بين جنبيك كلام الله عز وجل، وقد أخذت المعجزة العظيمة، وقد سبق بيان ما لصاحب القرآن من القدر والمنزلة، فما ينبغي لك أن تكون مثل غيرك، وحسبنا في ذلك قول ابن مسعود: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون).

وقال النووي عن حامل القرآن: ومن آدابه أن يكون على أكمل الأحوال، وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن، وأن يكون مصوناً عن دنيء الاكتساب، شريف النفس، مترفعاً على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا، ومتواضعاً للصالحين وأهل الخير والمساكين، وأن يكون متخشعاً ذا سكينة ووقار.

يقول الفضيل بن عياض: ينبغي لحامل القرآن ألا يكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم.

وعنه أنه قال: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيماً لحق القرآن.

وقال الحسن: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار.