للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خصائص العشر الأواخر من رمضان والحث على استغلالها]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.

ولا شك أن من خصائص وغرر هذه العشر ليلة القدر التي أخبر الحق جل وعلا أنها خير من ألف شهر، وأن الملائكة تتنزل فيها، وأن الخير فيها من الله عز وجل عظيم، كما أخبر به أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ليلة واحدة تغفر ذنوب عمر مضى بإذنه عز وجل وفضله سبحانه وتعالى، فما بالنا لا ندرك عظمة مثل هذه الأجور والإقبال على الطاعات؟! وللأسف فإن واقعنا الذي ذكرناه مخالف لما عليه أهل بدر في الجملة فداء وتضحية وجهاداً ونصرة، كذلك في جانب الطاعة والعبادة والذكر والتلاوة ثمة صور مناقضة ومعارضة ومخالفة ومحزنة ومؤلمة، فبدلاً من أن تمتلئ في هذه الليالي المساجد بالناس نجد الامتلاء في الأسواق، وبدلاً من الانشغال بالأذكار والدعوات يكون الانشغال بالصفق في الأسواق، وبدلاً من قطع العلائق بالخلائق تزداد هذه العلائق وتمتد، إلا ممن رحم الله، وبدلاً من صور الطاعات نجد صوراً جديدة من المعاكسات والمغازلات وغيرها تنتشر، خصوصاً في هذا الشهر الكريم، وللأسف الشديد أن بعضها يكون ملاصقاً لبيوت الله، بل لبيت الله الحرام، وفيما يحيط به من تلك الأسواق وغيرها، يعجب المرء كيف يصلي الناس في الحرم في الليل في هذه الليالي العشر وفي الوتر التي يبتغى فيها ليلة القدر وهناك من لا يسمع صوتاً ولا يصيغ سمعاً ولا يحرك قلباً ولا يتحرك بقدم ولا يلتفت إلى شيء مطلقاً، وبينه وبين البيت الحرام أذرع أو خطوات يسيرة، إنه الحرمان الذي -والعياذ بالله- من وقع فيه حرم الخير الكثير.

نقول: عجباً! إذا جاء موسم طاعة وعبادة وموسم دنيا وتجارة أيهما نغلب؟! لا أقول هذا في أعيان الأفراد، بل أقوله للمجتمع كله، ولأهل الحكم والسلطان، ألا يجعلون حداً حتى يفرغ الناس لتلك العبادات، بدلاً من أن نغير أوقات أعمالنا ثم لا يكون لنا حظ من طاعتنا ولا حظ من قيامنا بأمر دنيانا كما يجب.

صورة عظيمة نجد فيها غفلة للقلوب، ونجد فيها انصرافاً عن الخير الذي يتعاظم ويتكاثر من الناس.

إننا كلما مضى الشهر ينبغي أن نزداد من الخير، وأن تعظم الهمم، وأن تزداد الأعمال، لكننا نرى عكس ذلك، وخير شاهد على هذا أنه كلما مضى الشهر رأينا الناس يتخلفون وينامون، فيبدأ الخطيب في آخر جمع رمضان وليس في المسجد إلا أقل من ربعه، والناس يسرعون خطاهم كأنما قد ضرب الشيطان على آذانهم فناموا، كيف يكون ذلك وهم في يوم جمعة أغر؟! كيف يكون ذلك وهم يستقبلون العشر؟! كيف يكون ذلك وهم يريدون أن يستزيدوا من الخير؟! أختم بمقالة ابن رجب، وهي نداء إيماني تذكيري، يقول فيها: إخواني! المعول على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار بعمل القلوب لا بعمل الأبدان، رب قائم حظه من قيامه السهر، كم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم، هذا نام وقلبه ذاكر، وهذا قام وقلبه فاجر.

فلنحرص على أن نجمع الخيرين، وعلى أن نطابق ما بين أعمالنا في ظاهرها وقلوبنا وما تنطوي عليه في باطنها، وأن لا نجعل للشيطان فرصة ليسرق من أوقاتنا الثمينة الغالية، بل من دقائقنا وثوانينا في هذه الليالي؛ فإنها معدودة، وإن كل واحدة منها إذا مرت وانقضت لا ترجع إلا أن يشاء الله إذا أحيانا لعام قادم، فكيف نفرط؟! وكيف نضيع؟! وكيف نمضي لنشتري حذاء أو كساء ونترك تضرعاً ودعاء، ونترك إصابة وموافقة لوقت عظيم وفضل عميم من الله سبحانه وتعالى؟! لا يفعل ذلك إلا من قل عقله أو حرم الخير، أو انصرف إلى دنيا فضلها وآثرها على الأخرى.

نسأل الله عز وجل كما بلغنا الشهر أن يبلغنا العشر الأواخر من منه، وأن يعظم لنا فيها الأجر، وأن يبلغنا ليلة القدر، وأن يمحو عنا فيها الوزر.

ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يعيننا على ما بقي من رمضان، وأن يختمه لنا بالمغفرة والقبول والرحمة والرضوان والعتق من النيران، وأن يدخلنا الجنة من باب الريان؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.

اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.

اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.

اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.

اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.

اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداًًًً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! لطفك ونصرك وعزك وتأييدك لعبادك المؤمنين المضطهدين المعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاًً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.

اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح! اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.

اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم! احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وإيمانها، وسعة رزقها ورغد عيشها.

اللهم! يا أرحم الراحمين! انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.

عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.