للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية معرفة عظمة الدين]

الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظمت صفاته، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، من سأله أعطاه، ومن التجأ إليه كفاه، ومن توكل عليه حماه.

نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن الوحي والرسالة والدين والإيمان خطب جليل، وحمل ثقيل لابد من أخذه بقوة ومن حمله بأمانة ومن أدائه بكفاءة، ولذلك الخطاب للرسل والأنبياء وأقوامهم وأممهم أن يأخذوا دين الله بقوة، وأن يكون الدين عظيماً في القلوب والنفوس، مقدماً في الواقع والممارسة.

وهذا الحديث له أهميته بالنسبة لنا جميعاً، لا يختلف في ذلك رجل عن امرأة، ولا شاب عن شيخ، ولا عالم عن عامي؛ لأننا جميعاً مسلمون، ولأننا جميعاً مكلفون، ولأننا جميعاً من بعد بين يدي الله محاسبون كل بحسبه وكل وفق طاقته وقدرته، كما قال جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦].

إنها الطريق إلى القوة في الدين، فكيف نصل إلى هذه المرتبة؟ وكيف نعالج ضعف اهتمامنا بديننا وقلة غيرتنا عليه وعدم استنفاد طاقتنا في سبيله؟ هذه معالم أحسب أن فيها شيئاً من الذكرى والعظة.

أولاً: معرفة عظمة الدين: إن كل أمر يكون اهتمامك به بقدر عظمته، وبقدر كماله، وبقدر ما فيه من النفع والفائدة المعنوية والحسية، فهل هناك ما هو أعظم من دين الإسلام؟! قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] فهذه آية عظيمة سبقها إشهاد الله سبحانه وتعالى ملائكته، وإقراره جل وعلا بشهادته سبحانه وتعالى بوحدانيته، ثم بالتثبيت والتوكيد على أن الدين عنده هو الإسلام، والمقصود أن الدين المقبول عند الله عز وجل هو الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:٨٥]، هذا الدين أكمله الله سبحانه وتعالى وأتم به النعمة، كما قال عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، فهل هناك أعظم مما أكمله الله جل وعلا وأحكمه؟ وهل هناك أفضل وأنفع وأصلح مما اختاره الحق سبحانه وتعالى ورضيه؟ فما بال القلوب والعقول لا تلتفت إلى هذا التعظيم؟ قال عز وجل حاكياً عن يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٢]، فهذا الدين هو اختيار الله لنا، وهو هدايته إلينا، وهو الذي أراد به فلاح دنيانا ونجاة أخرانا، فذلك أعظم نعم الله على الإطلاق، وذلك أجل وأكمل وأبلغ فضل من الله عز وجل علينا؛ لأن هذا الدين هو الدين الخاتم الذي أراد الله عز وجل به لنا كل ما يبحث عنه غيرنا ممن ضل عن هذا الدين أو ممن فرط في التمسك به وتعظيمه وتقديمه، قال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:١٢٥].

ولا تعرف النعم إلا بأضدادها، فانظر إلى الناس من حولك، وانظر إلى الكفرة والفجرة البعيدين عن حياض الإيمان وظلال الإسلام، أليسوا قد ملكوا متع الدنيا وشهواتها؟! أليس بأيديهم أسباب السعادة الدنيوية بكل ألوانها؟! ثم من بعد ألا ترى ضيق صدورهم؟! ألا ترى كدر وجوههم؟! ألا ترى شقاء حياتهم؟! ألا ترى فقدان أمنهم؟! ألا ترى انحلال أخلاقهم؟! ألا ترى ضياع أبنائهم؟! ألا ترى سواد وجوههم وحياتهم؟! قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦].

إنها مسألة مهمة؛ لأن الله جل وعلا قد ساقها لنا في سياق المقارنة فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:٢٢] فانتبه لهذا المعنى، وتدبر هذه المقارنة، قال سبحانه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:٢٢] إن نعمة الإسلام انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وسكينة النفس، ونور البصيرة، ومعرفة الحق، واكتشاف التباس الباطل، إنه كل ما يريده الإنسان من راحة باله، وسعادة نفسه، ولذة روحه، إنه الذي يبحث عنه كل إنسان حي في هذه الحياة الدنيا ليجد ما تسكن به نفسه ويطمئن به قلبه.

ثم انظر إلى المقابلة التي جاءت في سياق عطف مباشر في قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٢] فمن لم يأخذوا هذا الإسلام فهم قساة قلوب غلاظ أكباد، لا يعرفون حقيقة حقوق الإنسان، ولا يقيمون العدل ولا يلتفتون إليه، تتكشف بذلك الحقائق، وتتعرى هذه الحقائق عن بهارجها وزخارفها وأقوالها الباطلة ودعاياتها المضللة، ثم يخبرنا الحق سبحانه وتعالى بأن هذا المصير وهذا المسلك هو الضلال المبين الواضح، فكم نحن في نعمة من الله سبحانه وتعالى، بل قد جاء المثل القرآني بأبلغ تصوير وأجل وأدق تشبيه في قوله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢] ذلك هو مثل ما من الله به علينا، ومثل العظمة والمنة التي ساقها الله إلينا، يوم شرح صدورنا بالإسلام، فأصبحنا أحياء قلوب ونفوس، وغيرنا أحياء بالأجساد والأشباح، وقلوبهم مظلمة، ونفوسهم ميتة، ولذلك يسيرون متخبطين في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يرون الحق والهدى، ولا تنكشف لهم أنوار البصر والبصيرة.

إذا أدركنا ذلك فإننا نستحضر المزيد والمزيد من عظمة ديننا، ومن عظمة منة الله عز وجل علينا بهدايتنا لهذا الدين.

أفلا يستحق هذا الدين العظيم أن نعلق به قلوبنا، وأن نجعله نصب أعيننا، وأن نجعله قائدنا في مسيرتنا، وحاكمنا وضابطنا في تصرفاتنا كما ينبغي أن يكون الدين الحق في حياة أمة الإسلام والمسلمين؟! فالأمر أوسع من أن تحيط به كلمات.

ولنقف مع عظمة القرآن، وكلام رب الأرباب وملك الملوك جبار السموات والأرض، قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:٩] وقال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:٨٢] فالقرآن شفاء حيرة العقول، وشفاء اضطراب القلوب، وشفاء شقاء النفوس، وشفاء أمراض الأبدان، كل ذلك في القرآن الذي هو بين أيدينا مطبوع في أحسن الحلل، مسموع بشتى الأصوات، لكن أين مكانه؟! وأين وجوده في واقع حياتنا؟! وأين تعظيمه إذا تلي علينا وإذا سمعنا أمره ونهيه؟! ألم نستمع لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت (يا أيها الذين أمنوا) فأرعها سمعك فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه)؟! ألم نعرف ما قاله الحسن البصري رحمه الله: (إن القرآن رسائل من الله إليكم، فاقرءوا رسالته وعظموها حق قدرها)؟! وهذا باب واسع.