للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثقل الدين وعظمته]

ليس الدين أمراً سهلاً أو تافهاً والعياذ بالله! فأين مكانه من اهتمامنا؟! وأين وضعه في سلم أولوياتنا؟! وأين هو من همنا وغمنا؟! وأين هو من فكرنا وشغلنا؟! وأين هو من وقتنا وجهدنا؟! وأين هو من بذلنا ومالنا؟! وأين هو من أرواحنا ونفوسنا؟! أما إن الدنيا ومشاغلها والأهواء وجواذبها قد نازعت الدين فأخرته حتى جعلته وراءنا ظهرياً، فنحن اليوم لا نهتم أو نغتم به ولا نفكر أو ننشغل في أموره وأحواله، ذلك أمر أحسب أن الحق فيه واضح جلي، وأن المصارحة لكل أحد فيما بينه وبين نفسه تكشف حقيقة تحتاج إلى مراجعة وتقويم لننطلق إلى تصوير هذه القوة في الخطاب القرآني لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الناس نفساً وأثبتهم قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم إيماناً، الذي خاطبه الله جل وعلا فقال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:٥] فليس الأمر بالهين، وليس مسألة عارضة ولا مهمة خفيفة.

قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: قال حذاق العلماء: ثقل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ونحوه، ومزاولة الأعمال الصالحة دائماً.

ثم نقل عن الحسن البصري قوله: الهذ خفيف، ولكن العمل ثقيل.

أي أن تهذ بلسانك، وأن تدعي بقولك، وأن تتشدق بكلماتك، وأن تغر الناس بمظهرك، كل ذلك سهل، وللأسف أن كثيراً من أبناء أمتنا اليوم يحسنون القول ولا يجيدون العمل، فالعمل ثقيل.

ونقل البغوي عن الفراء في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:٥] قال: هو ثقيل ليس بالخفيف والسفساف؛ لأنه كلام ربنا.

أليس الدين هو كلام الله؟! فهل هناك ما هو أعظم وأثقل وأجل من كلام رب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى؟! لو جاءتنا رسالة من أمير أو مسئول لفرحنا بها، ولعظمنا أمرها، ولرفعنا من شأنها، ولكن كلام ربنا وآياته المنزلة وأحكامه المشرعة لا تنزل من القلوب منزلها، ولا تنال من التشريف والتعظيم حقها! ونقل ابن الجوزي عن الزجاج أنه قال: قول ثقيل أي: له وزن في صحته وبيان نفعه، كقولك: قول رصين.

أي: ثقيل له مضمون وله نفع وفائدة وله مغزى وله قيمة.

فقوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:٥]، أي: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه.

وكذلك أراد الله جل وعلا في شأن نبينا صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الأمرين: الثقل المعنوي الذي سنجليه ونوضحه، وكذلك الثقل الحسي، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي علته الرحضاء، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن كان لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقاً) وقد روى زيد بن ثابت: (أنه نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذه، قال: فكادت فخذه أن ترض فخذي)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي وهو على ناقته بركت به الناقة من ثقل الوحي، وكان يرى ثقل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، وعندما نزل جبريل لأول مرة بالوحي هل كان نزوله خفيفاً هيناً؟! وهل كان سهلاً؟! إنه نزل عليه وهو في خلوة وحده، ثم راعه بمفاجأته، ثم قال له: (اقرأ) فلما قال: ما أنا بقارئ قال عليه الصلاة والسلام: (فأخذني فغطني -أي: ضمني- حتى بلغ مني الجهد -أي: التعب والشدة- ثم أرسلني فقال: اقرأ.

قلت: ما أنا بقارئ.

قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم الثالثة كذلك) لأن أمر الدين عظيم، ولأن رسالته ثقيلة، ولأن أمانته عظيمة، فلا يمكن أن تتلقاه وأنت تريد ركوناً إلى دنياك، واستمتاعاً بشهواتك، ورضوخاً إلى أهوائك، واستسلاماً لضعفك، واستمساكاً بحياتك.