للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الانتشار في الأرض عند الأذى والتسلط]

ثم صفحة سابعة وهي الهجرة الأولى إلى الحبشة: وذلك عندما اشتد إيذاء كفار قريش للمسلمين من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وكثر تتبعهم لهم، واستقصاؤهم وتفتيشهم عن هؤلاء المسلمين المستخفين بدينهم، ثم إنهم صبوا عليهم العذاب صباً، وكان هذا العذاب متنوع الأساليب: فمن عذاب حسي، ومن عذاب معنوي، ومن سخرية وتحقير وصور كثيرة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الهجرة أمراً مهماً، ومعلماً أساسياً من معالم الدعوة وهو مبدأ الحماية والانتشار.

فقد كان المسلمون في ذلك الوقت قلة، وكانوا مستضعفين؛ نعم كان إيمانهم في قلوبهم عظيماً، وكان يقينهم في نفوسهم راسخاً، وكانت ثقتهم بالله كبيرة، وكان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يعلمنا من خلال سيرته السنة الإلهية التي ينبغي أن تراعى وأن تتبع، فلم تدفعهم حماستهم للحق الذي آمنوا به، والدين الذي اعتصموا به أن يواجهوا الباطل مواجهة سافرة، وفي معركة هي بالمقياس المادي خاسرة، ولم تكن الحماسة هي التي تقودهم ليواجهوا الباطل كيفما اتفق، لماذا؟ لأنهم يريدون أن يعملوا ما يعود على هذا الدين بالنفع والفائدة، وما يعود على الدعوة بالقوة والانتشار، ولذلك كما يقول محمد الصادق عرجون في كتابه (محمد رسول الله): أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزع فتيل التوتر، فقد كانت قريش في شدة حميتها، وقوة توجهها نحو ضرب المسلمين والأمة الإسلامية ضربة إبادة، وكان المسلمون كثير منهم من العبيد والموالي والضعفة الذين هم في طبيعة ذلك المجتمع ليس لهم حول ولا طول، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يهدئ الأوضاع، وأن يحمي هذه الكوكبة القليلة من الفئة المؤمنة، ليكون ذلك أدعى لانتشار الدعوة في وقت آخر.

فليست المسألة مسألة تسلط، أو تشدد، وإنما هي مصلحة الدعوة حيثما كانت، ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مَثَل المؤمن أنه كالخامة من الزرع تميلها الريح ولا تكسرها، فإذا جاءت الظروف العصيبة فإنه يمكن أن يجعلها بهدوئه وسكينته، وثباته على مبدئه، تمر دون أن تقصم ظهره، أو أن تعيق انطلاقته، وهكذا كان هدف النبي عليه الصلاة والسلام.

إضافة إلى ما كان منه عليه الصلاة والسلام من حكمة ودراية ومعرفة بالواقع، فقد اختار أرض الحبشة، وهي أرض قريبة من مكة، فليس بينها وبين مكة إلا مسافات قصيرة من ناحية البحر، ثم إنها كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلَم عنده أحد)، ولم يطلب المسلمون في هذه الهجرة سلامتهم، ولم يختاروا العيش الرغيد، والأمن الوافر، وإنما أرادوا أن يقوّوا الصفوف، وأن يبذروا الدعوة في مكان آخر، وأن ينطلقوا بها مشرقين ومغربين.

ولذلك لا بد أن ندرك في مسيرة الدعوة أنها ليست ملكاً لفرد أو لفئة من الناس، وإنما هي ملك للأمة كلها، فلا ينبغي أن يتهور متهور فيورد الدعوة وأهلها والعلماء والمصلحين موارد الهلكة، دون أن يكون هناك أي أثر إيجابي، وأما ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله) فقد ذكر أهل العلم أن ذلك إذا كان مختصاً بنفسه، وذكر بعضهم أن ذلك فيما لا يؤثر على من وراءه؛ إذ قد يكون الإنسان مضحياً بنفسه، لكن ينبغي أن يحرص على نفع الأمة ومصلحتها، فلما كانت هذه المرحلة هي المرحلة التي اشتد فيها الأذى من كفار قريش أراد النبي أن يلتمس للمسلمين مخرجاً، وأن يخفف من غلواء ذلك العداء، وأن يبعد أسباب النقمة الشديدة من أولئك الكفار، وأن يهيئ أسباب الانتشار في ظل ما قد يكون من سكينة أو هدوء، أو ضعف في مواجهة الاعتداء على المسلمين من أبناء هذه الأمة.