للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وصف الجنة من القرآن والسنة]

الحمد لله، الحمد لله يسمع من حمده، ويطمئن من ذكره، ويزيد من شكره، ويعطي من سأله، له الحمد سبحانه وتعالى؛ شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، نحمده سبحانه وتعالى على فضله وجوده وكرمه في شهر رمضان، وعلى ما يسر فيه من البر والمعروف والإحسان، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه؛ فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين؛ فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أمنية الأمنيات، وغاية الغايات التي تتعلق بها قلوب المؤمنين، وتتشوق إليها نفوسهم وتنشغل بها أفكارهم، وتقضى في سبيل تحصيلها أوقاتهم، وتبذل لأجل بلوغها كل طاقتهم وإمكاناتهم، هي الجنة.

وما أدراك ما الجنة؟! تلك التي جعلها الله سبحانه وتعالى داراً للمؤمنين، ومثوىً للمتقين، والصوم طريق إلى الجنة؛ ذلكم أمر ينبغي الانتباه له ليتم الاغتنام على وجهه الصحيح، وليحيي في القلب والنفس من معاني التعلق بالجنة والجد في السعي إليها ما ينبغي أن يكون شعاراً ومناراً في هذه الفريضة الجليلة وهذا الشهر الكريم.

الجنة التي هي غاية الغايات وأمنية الأمنيات ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه حتى كاد أن يكون القرآن كله ترغيباً في الجنة وترهيباً من النار، والفوز العظيم هو مجرد النجاة من النار ودخول الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:١٨٥]، ويقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه المعاني الجليلة العظيمة: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:٧٢]، ليس هناك فوز حقيقي، ولا كسب عظيم، ولا أمر يستحق أن يبذل له كل شيء مثل هذا الفوز بالنجاة الكبرى والغنيمة العظمى بدخول جنة الله سبحانه وتعالى.

الجنة وما أدراك ما الجنة، وما أدراك ما فيها من النعيم المقيم؟ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة والجلال تقدست أسماؤه وجل جلاله أنه قال: (أعددت في الجنة لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧])، فهل هناك أعجب بل أعجز من هذا الوصف الذي مهما عظمت الأمنيات، واتسعت الخيالات، وتنوعت اللذات تقصر عن أن تحيط بشيء منه أو أن تقترب من ظلال حقيقته؟ (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فليخطر بقلبك من النعيم أوسعه، ولتفهم ولتتعلق بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة؛ فإن ما عند الله من النعيم أعظم من كل ما تجول به الخواطر، وتتعلق به النفوس والقلوب من تلك اللذات وذلك النعيم، وذلك لا شك أنه يهيج الشوق في قلب كل مؤمن إلى الجنة، ويبعث إلى التعلق بها، ويحث على السعي إليها.

والأمر أوسع من ذلك؛ ففي الصحيح من حديث سهل بن سعد ما هو من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، هذه الدنيا التي تتعلق بها قلوبنا، وتخطف أبصارنا، وتسبى نفوسنا، ونصطرع في ميادين المنافسة على أخذها ونيلها، موضع سوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها.

ويح الملوك، وويح الذين لا يكون لهم هم إلا دنياهم، وويح الذين تعلقت قلوبهم بهذه الدنيا يريدون أن يستكثروا منها ليكونوا أثرى الأثرياء وأغنى الأغنياء، فسوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها أعظم مما يملكه الملوك، ومما يحوزه الأثرياء، ومما يتسلط به أهل الدنيا كلهم من أولهم إلى آخرهم، فهل ثمة أعجب أو أعظم من ذلك؟ وامض كذلك لتستمع إلى ما هو أعظم وأجل في تلك الأوصاف العظيمة، بما ورد من حديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم، وهو حديث عظيم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، رجل بعد أن قضى ما عليه من عذاب الله أدركته رحمة الله بتوحيده لله فأدخل الجنة، فلما دخلها رآها ملأى فرجع يخاطب ربه: يا رب! إني رأيتها ملأى -ليس فيها موطن له ولا مكان يضمه- فقال الله جل وعلا له: ادخلها ولك الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول العبد: أتهزأ بي يا رب؟ فيضحك الرب سبحانه وتعالى)، ويضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يروي هذا الحديث.

أفلا يكون ذلك صارفاً للقلوب عن تلك الشهوات والملذات التي لا يمكن بحال من الأحوال لمؤمن عاقل أن يقيسها أو يزنها أو يقارنها بشيء ولو يسيراً من مثل هذا الذي وعد الله به عباده؟! وتأمل في هذه المعاني والنصوص وامض معها.

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وصف أختم به بعض هذه النصوص، وهو يصف جنة الله سبحانه وتعالى: (لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها مسك الإذفر -والملاط هو ما يوضع بين اللبنات لتتماسك- وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)، وصدق الحق سبحانه وتعالى وهو يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:٢٠].

رمضان موسم الخير الأعظم، والصوم طريق إلى جنة الخلد بإذن الله، فلندرك هذه الخصائص في هذه العبادة حتى ندرك عظيم منة الله علينا، وحتى نعرف فضله سبحانه وتعالى علينا، وحتى نلتفت إلى تقصيرنا وتفريطنا، وحتى لا نظن أننا قد قمنا بعمل كثير، وأننا سعينا السعي الكافي، واجتهدنا الجهد اللازم لنحصل هذه السلعة الغالية، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.