للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حرص الداعية على التفقه في الدين]

العدة الثالثة: العلم والفقه في الدين: والفقه أوسع دائرة من مجرد العلم الذي ينصرف الذهن فيه إلى ما يحفظ من كتاب الله، أو ما يعرف من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما يعرف من أحكام الفقه، فإن الفقه في الدين هو نوع من العلم والبصيرة، وهذه مسألة مهمة وعدة من العدد اللازمة للداعية، وليس العلم بكثرة المحفوظ، وإنما بحسن الفهم، ولذلك لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس قال: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل).

الفقه في الدين: بصر بالمقاصد، معرفة بالأولويات، ترتيب للأهميات، إدراك لواقع الحال، معرفة لأثر المتغيرات، تنبه لاختلاف الأشخاص والنفوس، كل ذلك نوع من الفقه في الدين، ولذلك أحاط الله سبحانه وتعالى بكل شيء علماً، ثم منَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بمنة العلم، فقال جل وعلا: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:١١٣]، وقال قائل السلف: ليت شعري ماذا أدرك من فاته العلم، وماذا فاته من أدرك العلم.

من فاته العلم فلا حياة لقلبه، ولا صحة لعمله؛ لأنه فاقد للعلم الذي يبصر بذلك كله، ومن أدرك العلم فقد بصر بأمر الله سبحانه وتعالى، وبهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وحصل خير الدنيا، ويرجى له خير الآخرة، فماذا فاته؟! هل فاته شيء من رزق أو قوت أو مال؟ كل ذلك عند المسلم هين يسير.

وجاء عن لقمان الحكيم عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:١٢] أنه قال لابنه: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء.

والعلم مقدم على العمل، بل هو مفتاح العمل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:١٩]، كيف تستغفر الله إن لم تكن على علم ومعرفة بالله سبحانه وتعالى وعظمته والإيمان به؟! كيف يمكن أن تسير في التزامك أولاً فضلاً عن دعوتك من غير ذلك الزاد المهم في هذا الباب؟! وينبغي أن ننبه إلى أن هذا العلم وهذا الفقه يشمل مسائل كثيرة، نوجزها في أمور، أولها: تعلم ما لا يسع المسلم جهله مما يحتاج إليه من أمور الإيمان وأحكام العبادات والمعاملات، وكما قال أهل العلم: إن العلم فرضان: الأول فرض عين، وهو إجمالاً: معرفة الله جل وعلا، ومعرفة أسمائه وصفاته، وتعظيمه سبحانه وتعالى، وخشيته ومحبته، ويلحق بذلك أيضاً تعلم المفروض عليك من أحكام الصلاة التي لابد لك منها، ومن أحكام الزكاة إن كنت صاحب مال، ومن أحكام الحج إن استطعت إليه، ومن أحكام البيع والشراء إن كنت ممن يدخلون في بابه، هذا أمر لا مناص منه.

والثاني: فرض كفاية، وهو: الاستزادة من العلم فوق هذا القدر، فلا تحرم نفسك أنوار القرآن والوقوف على معانيه، ولا تحرم نفسك هدي النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف على سيرته، ولا تحرم نفسك مما نقل أو مما خلد التاريخ من آثار المتقدمين في أنواع العلوم فقهاً وأصولاً وحديثاً، وكل علم من علوم الدين والشريعة، فإن ذلك كلما زاد كانت العدة والذخيرة كثيرة، والشبكة كبيرة، وكلما أحسنت الصيد، فالعالم له أثر في الناس غير طالب العلم، والعامي غير طالب العلم، فبحسب ما تزيد من عدتك وتزيد من علمك وبصيرتك يكون لك في هذا الشأن قدم سابقة، ونتيجة أكبر.

ويلحق بذلك أيضاً مما يتعلق بالعلم: البصر بالواقع والعلم به، وهذه مسألة مهمة، فقد جد في حياة الأمة كثير من الفتن، وكثير من المذاهب الردية، وكثير من المفاسد، والحكمة تدعو أن يكون الداعية ملماً بها، لا أن يعيش في هذا العصر يقرأ كتبه فقط، بل يستنزل ذلك المكتوب ليطبقه أو لينفعل ويتفاعل به مع الواقع، حتى يمكن أن ينتفع به.