للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صبر الداعية وعدم استعجاله للنتائج]

ثم بعد أن يتربص ويكمن الصياد يحتاج إلى الصبر، وكذلك هذا الداعية، لابد أن يتربص وأن يتأنى، ولذلك تأمل في نصيحة عائشة رضي الله عنها لقاص أهل المدينة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح، قالت له: ثلاثاً لتبايعني عليها أو لأناجزنك، فقال: ما هن؟ قالت له: اجتنب السجع من الدعاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يفعلونه، ولا تمل الناس، ولا تحدثهم إلا في الجمعة مرة واحدة، فإن زدت فاثنتين، فإن زدت فثلاثاً، ثم قالت له: ولا ألقينك تأتي القوم وهم في حديثهم فتقطع عليهم، ولكن إذا فرغوا وأقبلوا عليك فحدثهم.

إذاً: انظر إلى مسألة الصبر، فلا ينبغي للإنسان إذا تعلم كلاماً أو أخذ مبدأ أن يقذف به على أول عابر، وأن يتخلص منه في أول مناسبة، كأن يأتي إلى ناس في مناسبة زواج فيحدثهم عن الموت، أو يعكس الأمور ويخلط بينها، عليه أن يكون كالصياد عندما يضع شبكته من الليل ويتأنى حتى يتجمع السمك فيها، ثم يأتي ويأخذها برفق، وقد كان لذلك الوقت ولذلك التأني حظه.

فلذلك قلنا: لا بد أن يتربص وأن يتحلى بالصبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في ذلك، فقد كانوا يعرضون عنه هنا فيأتيهم من هنا، وتفوت الفرصة الأولى فيلاحق الفرصة الثانية، وهذه مسألة مهمة جداً نلمحها كثيراً في المواقف العمرية، أعني مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورحمه الله؛ فقد كان يستعجل في بعض الأحيان ويريد أن يحسم القضية، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام ببصيرته النافذة وحكمته الكاملة يرجئ الأمر مرة بعد مرة، وبعد ذلك تظهر حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام هي الصائبة، ويظهر قوله وتصرفه هو الذي أتى بالثمرة.

ومن ذلك ما جاء عن المقداد بن عمرو أنه قال: أسرت الحكم بن كيسان في معركة، فأراد أميرنا ضرب عنقه، فقلنا دعه حتى نقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فأطال، فقال عمر: علام تكلم هذا يا رسول الله! والله لا يسلم هذا آخر الأبد، دعني أضرب عنقه، ويقدم إلى أمه الهاوية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل على عمر، يعني: يتركه ولا يرد عليه ولا يقبل عليه، حتى أسلم الحكم، فقال عمر: فما هو إلا إن رأيته قد أسلم حتى أخذني ما تقدم وما تأخر، وقلت: كيف أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً هو أعلم به مني، ثم أقول: إنما أردت بذلك النصيحة لله ورسوله، فقال عمر: فأسلم وحسن إسلامه، وجاهد في الله حتى قتل شهيداً ببئر معونة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنه ودخل الجنان، فهذا مثل نحتاج أن نتدبره ونتملاه.