للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم اليأس من المدعوين والحذر من تنفيرهم]

إذاً لابد للداعية أن يتحلى بالصبر وطول الأناة، وهذا يقتضي منا أن نقول: إنه ينبغي ألا يكون لليأس إلى نفس الداعية سبيل؛ لأنه يحتاج إلى أمور: يحتاج إلى أن يدقق التصويب، وأن يستفرغ الجهد في الإصابة، لئلا ينتج عن الخطأ نوع من تنفير الصيد.

وهذا أمر مهم، فتنفير الصيد قضية خطيرة تقع في أسلوب التعامل في الدعوة، فلا بد أولاً أن يحسن اختيار الطعم المناسب مهما كان غالي الثمن، فلا بد أيضاً أن يستخدم الداعية الطريقة التي يستميل بها القلوب، والتي يرغب فيها المدعو ترغيباً حسناً، فإن كان ممن يتألف بالمال فليكن طعمه المال، وإن كان ممن يتألف بحسن الكلام وفصيح البلاغة فليكن كذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم -على ما مضى أيضاً من استغلال الاختلاف في النوعيات- كان يشجع حسان رضي الله عنه ويقول: (اهجهم وروح القدس معك)، ويقول عنه وعن غيره من الشعراء الذين نافحوا عن الإسلام: (والله لكأنكم تنضحونهم بالنبل)، فلا بد أن يقدم الأمر الذي يحتاج إليه، والذي يناسب ذلك الإنسان، فالذي يحب الأدب وهو مغرم بالبلاغة فليكن اجتهادك أن تقدم له هذه المادة، إن كنت بارعاً فيها، أو التمس له من يكون بها بصيراً وهكذا.

ثم الأمر الثاني: هو الخطأ الفادح الذي يقع به تنفير الصيد بسبب حركة معينة، أو صوت معين، ومن ثم قد يعود الصيد وقد لا يعود، فلذلك لا بد أن يكون الإنسان صاحب بصر وفطنة في ألا يفرط فيما يقع تحت يده قيد صيودك بالحبال الواثقة فمن الجهالة أن تصيد غزالة وتفكها بين الخلائق طالقة ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام وقعت له من الوقائع ما بين لنا بها كيف كان تصرفه مؤلفاً ومرغباً ومحصلاً للصيد، وكان بعض أصحابه يتعجل فينفر الصيد، ومن ذلك قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فابتدره الصحابة ليزجروه، فقال النبي لهم: (دعوه لا تزرموه) وفي رواية: (لا تقطعوا على الأعرابي بولته)، فلما قضى الأعرابي لم يأمره عليه الصلاة والسلام أن يغسل بولته، وإنما أمر الذين أرادوا أن يمنعوه، وقال: (صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء، ثم قال له: هذه بيوت الله لا يصح فيها شيء من الأذى)، وفي بعض الروايات -كما في رواية الترمذي - أن هذا الرجل قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.

وقصة معاوية بن الحكم السلمي معروفة، وذلك لما جاء ودخل في الصلاة، ثم عطس رجل فشمته، وكان لا يعلم منع الكلام في الصلاة، قال: (فجعلوا يحدون النظر إليّ -يعني: يرى الناس ينظرون إليه- فقال وهو في الصلاة: واثكل أمياه، مالكم تنظرون إليّ؟! قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، فلما قضيت الصلاة دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كهرني ولا نهرني، ولكن قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه) أو كما قال.

ومثل النبي صلى الله عليه وسلم تمثيلاً واضحاً في ذلك الرجل الأعرابي لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل أحسنت؟ قال: ولا أجملت، فابتدره الصحابة، ثم أعطاه مرة أخرى وقال: هل أحسنت؟ قال: ولا أجملت، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأعطاه، وقال له: هل أحسنت؟ قال: نعم، وأجملت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن في نفوس أصحابي شيئاً، فلو أعلمتهم أنك رضيت، فأعلن ذلك، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحادثة أو في غيرها كما في بعض الروايات: (مثلي ومثل هذا كمثل رجل نفرت منه دابته، فجعل الناس يسوقونها فتنفر منهم، فقال: خلوا بيني وبينها، وتوصل إليها بشيء من خشاش الأرض، فتألفها وجاءت) فبعض الناس ينفر الصيد إما بتجهم وغلظة في تعامله، أو بشدة ونبوة في لفظه، أو بجهل وخلط في علمه، وهذه كلها تسيء ولا تنفع.