للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المسلك الأول: الزينة والمال]

الزينة والمال: الذهب الذي يذهب بالأبصار، والفضة التي تفضض ما في القلوب فلا يبقى فيها إلا محبتها والرغبة فيها، الأموال التي يلهث وراءها الناس.

الدنيا بهذه القوة المالية التي حرفت مسار كثير من أربابها الذين يدبون على أرضها، وصار ليس لهم هم ولا غاية إلا أن يستكثروا من الأموال، وإلا أن يستزيدوا منها، فإذا زادوا منها رغبوا في المزيد على الزيادة، ولا يزالون كذلك كما هي أصل فطرة الإنسان إذا لم يهذبها الإيمان.

وقد نصب لنا القرآن الكريم مثلاً هو المضرب في هذا الباب؛ ليعطينا صورة من صور طلاب الدنيا، الذين انتهوا في هذا الطريق إلى الكفر والجحود، وإلى جهنم وساءت مصيرًا.

فهذا قارون الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، ووصف أمواله وثروته بقوله جل وعلا: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:٧٦]، مفاتيح الخزائن لا يستطيع رفعها إلا الرجال الأشداء الأقوياء، فما ظنكم بالخزائن؟! وما ظنكم بالذي فيها من الأموال من الذهب والفضة والجواهر واللآلئ؟! ماذا كان حال قارون؟ وأي شيء أدت به هذه الدنيا بفتنتها؟ قال الله عز وجل حاكياً عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:٧٨] لقد نسي المنعم، وجحد الخالق المتفضل سبحانه وتعالى، وأعلن بكبريائه كفره، ثم لننظر إلى أثر هذا المسار والمسلك في الناس من حوله.

فالذين فتنتهم الدنيا بالتفكير فيما أوتي أربابها من الأموال، فهم منشغلون ومهمومون ومغمومون، قال الحق جل وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:٧٩].

وكم نسمع اليوم في بيئاتنا ومجتمعاتنا وديار المسلمين من لا أمنية له إلا أن ينال مثلما نال فلان من الثراء، وأن يكون عنده الأموال والدور والقصور، كأنه ليس وراء هذه الدنيا من متاع، ولا من عطاء، ولا من جنة، ولا من خير يسوقه الله عز وجل لمن أخذ من هذه الدنيا نصيبه المقسوم، مع بقاء قلبه معلقاً بالآخرة وبرضوان الله ونعيمه الموعود في جنة الخلد عند مليك مقتدر.

هذا كان قول أولئك القوم.

وذكر الله قول أهل العلم والإيمان حيث قال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:٨٠].

ثم جاءت الصورة التي تختم لنا هذه القوة الدنيوية والثراء والمال الذي هو -كما يقولون اليوم- عصب الحياة، ماذا كان شأنه؟! وأي شيء أغنى عنه هذا المال وهذه القوة؟! قال عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:٨١].

ذكر الله فاء التعقيب التي تقتضي السرعة في هذه الأحداث التي وقعت: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) وانتهى قارون، وتناثرت أمواله، وتبعثرت دنانيره ودراهمه، وما أغنت عنه شيئاً من هذا المصير المحتوم؛ لأنه كان من طلاب الدنيا ومن أربابها، وجحد بالآخرة، وجحد بالمنعم سبحانه وتعالى.

وكم نرى اليوم من يجمع القرش إلى القرش، والريال إلى الريال، وهو لا يحب أن يسمع ذكر الفقراء، ولا يرغب أن يعرف حاجات المحتاجين، وإذا اضطر أو أحرج أن ينفق شيئاً من ماله فكأنما يقطر بعضاً من دمه، يخرج مع كل ريال يخرجه نفساً من أنفاسه، وكأن عروقه تتقطع؛ لأنه لا يحب أن يخرج شيئاً من هذا المال، فهو يكنزه ويحب أن يراه صباح مساء، فلا ينظر إلا إليه، ويمسي فلا يفكر إلا فيه، وينسى قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:٣٤ - ٣٥].

وكم نرى اليوم من يتنافسون ويسعون لمضاعفة أموالهم من طرق الكسب الحرام، وأعظمها وأكثرها جرماً وأفدحها خطراً الربا الذي قال الحق سبحانه وتعالى في شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:٢٧٨]، ثم توعد الوالغين فيه والمصرين عليه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:٢٧٩].

وكم نرى فتنة المال في حياتنا المعاصرة وفي كثير من مجتمعات المسلمين، وهي تحدد للناس مسارهم، وتملك عليهم مشاعرهم، وتحدد منهجية تفكيرهم وتدبيرهم، لا يألون جهداً في جمع هذا المال.