للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المسلك الثاني: السلطان والطغيان]

هذا مسلك ودرب وطريق آخر من طرق طلاب الدنيا: طريق السلطان والطغيان: عندما يملك المرء القوة التي يبطش بها بمن يخالفه، أو بمن هو عدوه، ويملك من الأعوان ومن البهرج ومن زخرف السلطان ما يملك، فإذا به يطغى ويبغي ويجحد قوة الله سبحانه وتعالى وينساها، والمثل القرآني في ذلك هو فرعون الذي ذكره الله عز وجل في ثنايا القرآن في آيات كثيرة ومواقف وأحداث عديدة، كما في قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه لعنة الله، ووصفه الله جل وعلا بقوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:٨٣].

ثم نجد القرآن يعطينا صورة من صور هذا الطاغي في الدنيا الغارق فيها، الذي لم يعرف ولا يريد شيئاً سواها، كيف أن الدنيا تملكت قلبه من باب السلطان والجاه والقوة والقدرة البشرية الإنسانية؛ حتى قال مقالته الشنيعة: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:٢٩] فلا قول إلا قوله، ولا رأي إلا رأيه، وقال سبحانه وتعالى على لسانه لما آمن السحرة لموسى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:٧١]، فكانت هذه جريمة عظمى عنده، والله سبحانه وتعالى يخبرنا عن مدى غطرسته وجبروته وطغيانه حيث يقول: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١].

هذه صورة السلطان والطغيان ختمت بأعظم جريمة في الإنسانية كلها وهي ما قصه الله عز وجل بقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] أكفر كلمة قالها إنسان هي كلمة فرعون: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، ثم أردفها بقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:٣٨ - ٣٩]، وانظر إلى الخاتمة: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:٤٠].

فرعون الذي كان يأمر وينهى، الذي لم يكن أحد يدخل عليه إلا ساجداً، ولم يكن أحد يتلفظ إلا به حالفاً، كان هذا هو مصيره أن أغرق في ماء البحر، وقال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢].

وكم في حياة الناس اليوم وفي مجتمعات المسلمين من يغتر بالسلطان، ومن يغتر بالجاه، ومن يغتر بكثرة الأعوان، ومن يغتر بقوته على من هو أضعف منه، حتى بدت بعض المجتمعات كأنها مجتمعات الغاب، يفترس فيها القوي الضعيف، ويبطش فيها القادر بالعاجز، وغابت عن الناس معاني الآخرة، والعقوبات التي توعد الله عز وجل بها من ظلم ومن بغى ومن اعتدى.