للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نبي الله شعيب يؤسس قواعد الإصلاح]

ثم استمعوا معي إلى ما قاله شعيب عليه السلام في هذه الكلمات التي تؤسس القواعد مع ما سبق أن ذكرناه من قاعدة الإيمان وحسن الاعتقاد وصحته، وقاعدة الاستقامة وكمال الالتزام بشريعة الله عز وجل.

قال عليه السلام عندما ردوا عليه بهذا الرد: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨].

في هذه الآيات منهج لكل مصلح ما الذي ينبغي عليه في تكوين ذاته ونفسه، ما الذي يجب عليه في حسن عرضه ودعوته، ما الذي ينتهي ويرتكز عليه في قدرته ومواصلته.

استمعوا إلى هذه الآيات! استمعوا إليها بالقلوب والعقول استماعاً فيه التدبر والتأمل وهو يقول: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود:٨٨]، فأول أمر أيها المؤمنون المسلمون لا بد أن نكون على بينة من أمرنا، على بينة من ديننا، على بينة من نهجنا، لا بد أن نعرف حقائق إيماننا وشرائع إسلامنا، أن نعرف ما يثار من الشبهات.

لا بد أن نعرف المنهج الإسلامي معرفة صحيحة من أصوله الصافية، ومنابعه العذبة؛ لأن هذا هو الذي يجعل لنا النور الذي نكشف به صور الانحراف والخلل، وهذا هو الذي يثبت المصلح.

أما إذا لم يكن المصلح على بينة من ربه، وعلى معرفة من نهجه، فربما اضطرب أو تشكك، وربما تراجع وتقهقر، وربما وافق وداهن أو جامل فيما لا ينبغي أن يكون؛ خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه المفاسد والأطروحات والضغوطات المختلفة، حتى صار الناس يدعون أموراً ليست من الإسلام وينسبونها إليه؛ لأنهم ليسوا على بينة من ربهم.

وهذا أول أمر ينبغي للمؤمن والمصلح والداعية والعالم وكل فاعل خير في هذه الأمة أن يتزود به، وأن يتحصن به، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام:٥٧]، حتى وإن كذبت الدنيا كلها، وإن صارت وسائل الإعلام تصك أذاننا كل يوم بمذاهب وضعية بشرية؛ فإننا نقول: إنا على بينة من ربنا.

{وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:٥٧] كانوا يقولون: أين أثر ذلك؟ أين النتيجة لذلك؟ واليوم يقول بعض المسلمين: أين أثر القرآن وأين أثر الإيمان؟ وأين أثر شعائر الإسلام؟ هل يمكن أن تطبق في واقع الحياة اليوم؟ إن هذا التشكك لا يزيله إلا يقين راسخ، ومعرفة تامة، وبينة واضحة في منهج الإسلام.

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:٥٧].

ثم قال شعيب عليه السلام: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود:٨٨] قال أهل التفسير: قصد النبوة، أو الرزق الحلال، قال ابن كثير: والأمر يحتمل، ومقصوده في سياق الآية: (ورزقني منه رزقاً حسنا) أي: أخذت من الحلال ما كان موافقاً لشرع الله، وتركت ما كان من الحرام مخالفاً لأمر الله.

فالاستقامة هنا بعد وضوح المنهج، إن كل مصلح لا بد أن يكون قدوة ولا بد أن يكون مسابقاً لكل خير يدعو إليه، ومجتنباً لكل سوء أو شر يحذر منه، لا بد أن يكون قدوة تتعلق بها القلوب، وتتأثر بها النفوس، وتكون أنموذجاً يقتفى، وأسوة تحتذى.

هذه معالم مهمة في الإصلاح، فما بال كثير من أهل الإصلاح يقولون ما لا يفعلون، ويدعون إلى ما عنه يتخلفون! ومن هنا أتبعها فقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨] إن أعظم أثر سلبي لدعوة الإصلاح أن يكون الداعي إليها أول مخالفٍ لها، كيف نقول إننا ننطلق من ثوابتنا ونحن نستورد من غيرنا؟ كيف يقول ذلك المصلح إنه يريد خيراً لوطنه وبلاده، وقلبه وفكره في خارجها؟ كيف يدعي أنه يريد الإصلاح كما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح، وهو يتلقى توجيهاته أو إرشاداته أو نظرياته أو أفكاره ممن ليسوا على دينه ولا على ملته، وليسوا من دياره ولا من بلاده؟ ثم كذلك: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨] سواء كان ذلك في السر أو كان في العلن، ذكر ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: لا أنهاكم عن شيء وأخالفكم في السر فأفعله خفية عنكم، كما قاله قتادة، وقال كذلك: لم أكن أنهاكم عن أمر وأركبه، لما كان لهذا الأمر أثره في عدم قبول دعوة الإصلاح والتأثر بها.

ثم قال: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:٨٨] وهذه قاعدة إصلاحية مهمة، قاعدة الإخلاص والتجرد عن المصالح الذاتية، قاعدة الارتباط بتغليب المصالح العامة للأمة.

إن الداعية المصلح لا يريد شيئاً لنفسه، لا يريد حظاً لدنياه، لا يريد شيئاً يتصل به أو بجماعته أو بقبيلته أو بفئته، إن المصلح الحق إنما يريد وجه الله أولاً، وخير أمته وأبناء أمته ثانياً، لا يوجهه لذلك مصلحة ولا يرده عن ذلك مفسدة.

لا يدعوه إلى ذلك مغنم، ولا يصده عن ذلك مغرم، إنما أساسه ورغبته الإصلاح، فإرادته الجازمة وغايته الواضحة: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:٨٨].

وقضية الإصلاح والتغيير قضية ليست سهلة، ومن هنا جاء قوله عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨]، فإنه لا يمكن أن تحقق دعوة إصلاحية أثرها إلا بتوفيق الله عز وجل، ولا يستدعى هذا التوفيق ولا يستجلب إلا بالإخلاص لله عز وجل، وكمال التجرد، والرغبة في خير هذه الأمة وإصلاحها.

{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨] فالاعتماد عليه، والرجوع إليه، قال السعدي في تفسيره: وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣]، وكما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، فإن انطلقنا في دعوتنا للإصلاح مستعينين بالله، مستحضرين رجوعنا إليه، فذلك هو النهج القويم الذي ترجمته لنا آيات القرآن.

نسأل الله عز وجل أن يصلح فساد قلوبنا ونفوسنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وأصلح أعمالنا، وحسن أقوالنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.