للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصص وأخبار في الحج]

الحج عبر امتداده الطويل فيه كثير من القصص والمشاهد، نقف عند بعض منها بشكل موجز، من هذه القصص في سير سلف الأمة ما هو معروف ومشهور من سيرة عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه ورضي الله عنه، فقد كان مشهوراً أنه يحج عاماً ويغزو عاماً، وكان يحب أن يحج الناس على نفقته، ولذلك كان يحب الناس أن يحجوا معه لينتفعوا بعلمه، فالناس فيما مضى كانوا يصحبون العلماء لينتفعوا بمعرفة المناسك ويتعظوا ويتذكروا، فكان إذا جاءه الناس ليحجوا معه يقول: ائتوني بنفقتكم.

فيأتي كل بنفقته فيضع عليها اسمه، ثم يجمعها كلها في خزينة عنده، ثم لا يأخذ منها شيئاً، ويخرج بالحجاج ينفق عليهم منذ خروجهم من مرو التي كان فيها في بلاد المشرق حتى يحجوا، فإذا انتهى حجهم سألهم: من عندكم من الأولاد؟ وماذا تريدون أن تهدوا لهم؟ فبعد أن يخبروه يقوم فيشتري لهم الهدايا واللطائف، ثم إذا رجعوا بيض بيوتهم على ما هي العادة، حيث يبيضون البيوت فرحاً بالحج وإشارة إلى أنهم أدوا فريضة الحج، ثم يجمعهم بعد ثلاث ليال في وليمة فرحاً بما يسر الله من أداء الحج، ثم يعطي كل واحد منهم نفقته التي كان قد أعدها لنفسه، فقيل له: لماذا لا تتركها لهم حين جاءوك بها؟ قال: حتى لا يستكثروا منة لي عليهم، وحتى لا يشعروا أن في حجهم نقصاً أو جرحاً.

فهذه قصة من قصص السلف الصالح رضوان الله عليهم، وللنبي عليه الصلاة والسلام مواقف وقصص كثيرة فيها عظات وعبر، لكننا نذكر ما جاء بعد ذلك.

ذكر في بعض قصص التاريخ أن هارون الرشيد حج مرة، وقد قيل -أيضاً- عن هارون: إنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً.

خلافاً لما يلصق به الحاقدون من التهم وما لا يليق بسقطة الناس فضلاً عن أمراء وخلفاء المسلمين، فكان يمشي وكان الحراس يصرفون الناس بين يديه -أي: يوسعون له الطريق-، وكان هناك أحد الصالحين يعظ الناس ويذكرهم، فقالوا له: اسكت قد أقبل أمير المؤمنين: فلما حاذاه رَكْبُ أمير المؤمنين قال: يا أمير المؤمنين! حدثني أيمن بن نابل: حدثني قدامة بن عبد الله قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثم ضرب ولا طرد ولا: إليك إليك).

فسأل عنه فقيل: إنه فلان.

فقال الرشيد: قد عرفته.

فقال له: قل.

فقال: فهب أن قد ملكت الأرض طراً ودان لك البلاد فكان ماذا أليس غداً مصيرك جوف قبر ويحثو الترب هذا ثم هذا فقال له الرشيد: قد أجدت فغيره؟ يعني: قل غير ذلك.

فقال: نعم يا أمير المؤمنين.

من رزقه الله جمالاً ومالاً فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار.

فظن الرشيد أنه عرض بذلك إلى حاجته -أي: كأنه يريد أن يطلب منه مالاً- فقال له: قد أمرنا بقضاء دينك.

فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا تقض ديناً بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك.

قال: إنا قد أمرنا أن يجرى عليك.

قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يعطيك الله وينساني، فقد أجرى علي الذي أجرى عليك ولا حاجة لي بجرايتك.

فكان هذا الموقف عظيماً في وحدة ومساواة الأمة وانتفاعها بمثل هذا المشهد العظيم.

ومن هذه القصص أيضاً والأخبار أن سفيان الثوري قال: قدمت مكة فإذا أنا بـ أبي عبد الله جعفر بن محمد قد أناخ راحلته فقلت: يا ابن رسول الله! لم جعل الموقف من وراء الحرم -أي: في منطقة الحل ليس بمنطقة الحرم-؟ فقال: الكعبة بيت الله، والحرم حجابه، والموقف بابه، فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب -يعني: بعرفة خارج الحرم- يتضرعون، فلما أذن لهم بالدخول أدناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة، فلما نظر إلى كثرة تضرعهم وطول اجتهادهم رحمهم، فلما رحمهم أمرهم بتقريب قربانهم وهو الذبح بمنى، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجاباً بينه وبينهم أمرهم بزيارة بيته على طهارة.

ثم قال سفيان: فلم كره الصوم أيام التشريق؟ قال: لأنهم في ضيافة الله، ولا يجب على الضيف أن يصوم عند من أضافه.

فكانت هذه الأقوال والمساءلات والمحاورات بين أهل العلم تدل على فطنتهم ورعايتهم لهذه الحقوق.

وذكر الذهبي أيضاً أن ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان السلجوقي لم يتهيأ له الحج، وكان لم يعزم على الحج، ومضى إلى مكان ليقضي بعض الأمور، فإذا به يرى ركب العراق وهم متوجهون إلى الحج، ووقف يتأمل الحجاج فرق لهذا المنظر واشتاق إلى زيارة البيت الحرام وأداء الحج، ونزل وسجد وعفر وجهه بالتراب وبكى، وقال: بلغوا سلامي وقولوا: العبد العاصي الآبق أبو الفتح يقول: لو كنت ممن يصلح لتلك الحجة كنت في الصحبة.

وطلب من الناس أن يدعوا له.

وأيضاً عن محمد بن يزيد الرفاعي قال: سمعت عمي يقول: خرجت مع عمر بن ذر إلى مكة فكان إذا لبى لم يلب أحدٌ أحسن منه صوتاً، فلما أتى الحرم قال مناجياً ربه: ما زلنا نهبط حفرة ونصعد أكمة ونعلو شرفاً ويبدو لنا علم حتى أتيناك بها، نقبة أخفافها، وبرة ظهورها، ذبلة أسنامها، فليس أعظم المؤنة علينا إتعاب أبداننا ولا إنفاق أموالنا، ولكن أعظم المؤنة أن نرجع بالخسران، يا خير من نزل النازلون بفنائه.

فهذه مناجاة جميلة وقصة يستفاد منها في هذا الدرس.