للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحكام الأضحية]

إن أيام العشر موسم التقوى، وفريضة الحج زادها التقوى، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٩٧].

وهنا مسألة أحب أن أعيد التذكير بها، وهي أن لكل موسم فضل وأجر ينبغي أن لا يمر دون ادكار واعتبار مما يدوم ويستمر، ولا تكن مواسمنا مواسم عمل ثم انقطاع، وذكرى ثم غفلة، وتقدم ثم تأخر؛ فإن ذلك يدل على فقه ضعيف، وعزم كليل، وتأثر يسير لا ينبغي أن يكون مع توالي فضائل الله جل وعلا، ومع دوام واستمرار تلك المواسم.

ومن فضائل هذه الأيام ومن شعائرها الأضحية، وهي عبادة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل وعلا: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢]، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، كما صح أنه (ضحى بكبشين أملحين أقرنين) فذبحهما بيده عليه الصلاة والسلام، وهذه الأضحية سنة مؤكدة يكره للقادر عليها تركها، وقد قال بعض أهل العلم بوجوبها، والجمهور على أنها سنة مؤكدة من استطاعها فينبغي له أن يبادر إليها، وأن لا يتأخر عنها، وهي ذبح شاة أو التقدم بسبع بدنة أو ناقة.

والذبح مقصود في هذا، وهو أفضل من أن تخرج القيمة أو أكثر من القيمة؛ لأن هذه هي عبادة الوقت، ولأن الفضيلة إنما تكون في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في هذا الوقت ذبح ونحر عليه الصلاة والسلام، ولم ينفق المال وقد كان عليه الصلاة والسلام منفقاً وجواداً كالريح المرسلة، ولكنه في ذلك الوقت وفي تلك الشعيرة واقتداء بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام ذبح ونحر وضحى عليه الصلاة والسلام، ولذلك فالتضحية والذبح هو الأفضل، ومن أراد أن يتصدق بمال فليزد من المال بعد أن يقوم بهذه الشعيرة العظيمة، والأضحية للأحياء، وتجوز عن الأموات تبعاً كما تجوز عن الأموات استقلالاً إذا كانت وصية من الوصايا التي أوصى بها الميت وله مال يقضيها، وكذلك يمكن للإنسان أن يضحي عن نفسه، ثم يدعو بالأجر له ولأهله ولمن وراءه، كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما ضحى فقال: (بسم الله! اللهم تقبل من محمد، ومن آل محمد، ومن أمة محمد)، وهكذا ينبغي لنا أن ندرك هذا المعنى، بمعنى أن الأضحية عن الفرد وأجرها بدعائه وبفضل الله عز وجل يعم.

ولا يصح أن يشترك اثنان في أضحية واحدة، بمعنى أنهما يدفعان قيمتها شراكة، بل إذا دفعا القيمة كانت الأضحية عن أحدهما، ويدعو بعد ذلك له ولصاحبه أو لأهله بما شاء، فالله عز وجل فضله عظيم، ويعم بالأجر والثواب من دعي له بذلك إن شاء الله تعالى.

ووقت الأضحية بعد أداء صلاة العيد من يوم النحر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم بعد ذلك ننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك -أي: قبل الصلاة- فإنما هو شيء قدمه لأهله وليس من النسك في شيء).

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فليعد)، ولذلك فإن موعدها بعد أداء الصلاة، ويمتد إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، فهي مدة واسعة تشتمل على أربع ليال وثلاثة أيام، وهذا فيه مزية وفائدة ليعم النفع والأثر المطلوب لتلك الفريضة والشعيرة، وهكذا نجد المقصود من هذه العبادة أموراً كثيرة يتعلق بعضها بالذي يضحي وبعضها بعموم الأمة ومن ينتفع بمثل هذه الأضاحي.

أما المضحي فإنه يتقرب إلى الله عز وجل بالأضحية، وذلك تنويع، فأنت تتقرب بصلاة، وبإنفاق مال، وبالذبح الذي هو من أشهر أنواع القربات في فعل الإنسان، فكثيراً ما يذبح للطواغيت أو للأصنام أو لغير ذلك، فجعل هذا تضحية لله عز وجل ليتقرب العبد لله بمثل هذا، كما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:١٦٢]، وقال بعض أهل التفسير في النسك: هو ما ينسكه الإنسان ويضحي به لله عز وجل.

وفيه كذلك اقتفاء أثر إبراهيم الخليل عليه السلام في استسلامه لأمر الله، وأن الله عز وجل فداه بذبح عظيم، وفيه بالنسبة لأهل الإسلام إظهار شعائر الإسلام، فاليوم نرى كل هذه البهائم تجمع في كل بلاد الإسلام، وليس في مواطن الحج فقط، بل كل أهل بلد يهيئون أضاحيهم، حتى إذا جاء ذلك اليوم رأيت الذبح والنحر والدماء التي تنهر لله عز وجل، وذلك مقصد من إظهار الشعائر وتعبد الأمة وتقربها لله سبحانه وتعالى.

ثم من بعد ذلك إفاضة الخير وتعميم الطعام واللحم لمن لا يستطيع أن يحصل عليه وللفقراء والمساكين، ليكون العيد حينئذ -بإذن الله عز وجل- توسعة وفرحاً، كما قال صلى الله عليه وسلم عن أيام يوم النحر ويوم التشريق: (أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)، وهذا فيه إظهار لشعائر الإسلام، وسد لحاجات المسلمين، ومنع للأبواب التي يدخل منها غير المسلمين على فقراء المسلمين في بقاع الأرض فيقدمون لهم طعاماً وشراباً ومعه فتنة وانحراف وزيغ وضلال، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على أداء هذه الشعيرة وهذه السنة الفاضلة، وأن نبادر إليها، وأن نوصلها إلى كل أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق حديثه عنها: (كلوا وأطعموا وادخروا)، وذلك هو الذي يقول به أهل العلم، فيسن للإنسان أن يضحي بيده؛ لأن هذه عبادة وقربة، فإن استطاع أن يفعل بنفسه فذاك، وإلا فلو فعل غيره نيابة عنه فلا حرج، ثم يأكل منها ويهدي ويتصدق، ولو أنه تصدق بها كلها جاز، ولو تصدق بأكثرها وأبقى له جزءاً منها جاز، ولو أكل أكثرها وتصدق بالجزء الأقل منها جاز، ولكن الأجر يقل، وكل هذا واسع، ومن استطاع أن يجمع بين هذا وذاك فهو خير، وهذه من فضائل الله، ومن أعمال هذا الوقت.

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن ييسر لنا ولإخواننا المسلمين في كل مكان مشاعر ومناسك الحج في أمن وأمان وسلم وسلام وراحة ويسر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم! اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم! فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم! اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين، اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت.

اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.

اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، ووفق -اللهم- ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.