للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النهي عن الغلو في صوره العامة]

الوجه الثالث: النهي عن الغلو في صوره العامة كلها صغيرها وكبيرها؛ لأن معالجة الأمور الصغيرة إنما هي معالجة من باب أولى للصور الكبيرة؛ ولأن النهي عن المقدمات منع للوصول إلى النتائج، ولأن منهج الإسلام منهج متكامل، فيه وقاية وحماية، كما فيه علاج من بعد وقوع الضرر أو الأذى، كما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس في حجة الوداع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يلتقط له الحصى التي يرمي بها في منى، فالتقط له حصيات كحصى الخذف -أي: صغيرة في حجمها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين!)، رغم أن المسألة -كما نرى- في ظاهرها يسيرة، في أمر الحصى أن تكون على هذا النحو، ولكنه عليه الصلاة والسلام حذر من الغلو ولو في هذا، بأن يأخذ الناس كبار الحجار ظناً منهم أنها أبلغ في تحقيق المراد بأمر الله، فنهى عن ذلك، ثم جعل النهي عن الغلو عاماً رغم أن الحدث خاص، ورغم أن المسألة ربما تعد مقارنة بغيرها يسيرة فقال: إياكم والغلو في الدين.

كما بين أهل العلم هذا في شرح الحديث فقالوا: وإن كان الأمر خاصاً فإن النهي عام عن كل ما فيه غلو وتجاوز للحد المشروع، أي: في صغير الأمور وكبيرها.

ومن صور التحذير والتنفير من الغلو بيان الشارع الحكيم لسوء عاقبته، وخطورة مغبته، وأنه لا يؤدي حتى إلى مقصود صاحبه، فإن المتشدد في العبادة أو الطاعة فوق الحد المشروع إنما يريد التقرب إلى الله، وإنما يريد الاستزادة من الخير ومضاعفة وكثرة الثواب والأجر، لكن النتيجة التي أخبر بها الشارع تؤدي إلى غير ذلك.

فجاء التحذير من هذا الغلو ببيان عاقبته السيئة الوخيمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكرر ويدلل ويبين فيقول: (هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! هلك المتنطعون!)، هلكوا هنا معناه عام يشمل الهلاك في حقيقة الأمر المادي والمعنوي، فقد يهلك فينقطع عن تلك الطاعات والعبادات ويعجز عنها، وقد يهلك بانحرافه في اعتقاده ومخالفته لأمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين صفة ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، إن المنبت في صفة السفر لا يريد أن يرتاح، فهو يقول: أنا أمضي وأمشي إلى غايتي بقوة وعزيمة، من غير راحة ولا هدوء ولا توقف، يريد أن يبلغ الغاية في أقصر وقت، وبأعلى قوة وهمة، فإذا به ينقطع في وسط طريقه لا يستطيع الاستمرار، ثم يفقد الوسيلة التي بها يسير إلى الغاية إذ تنقطع دابته أو تهلك، فيكون حينئذ هلاكه مقطوعاً به في الصورة المادية في المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم.

ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً قد تشددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: {ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:٢٧]).

وهذا أمر واضح ومهم وبين، وله كثير من الأدلة التي تبينه.