للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دروس من قصة استخلاف أبي بكر لعمر]

هذه صفحتنا الأولى في عهد الصديق للفاروق رضي الله عنهما، ووقفاتنا فيها كثيرة.

أولها: أن القادة العظام أول ما يشغل بالهم، وأعظم ما يقلق راحتهم هو مصلحة أمتهم، ورعاية شئون رعيتهم، لم يكن أبو بكر في مرض موته يفكر في أبنائه، ولا في أسرته، ولا في أمواله، ولا في ثروته، كان همه هذه الأمة.

الأمر الثاني: الصدق التام، والإخلاص الكامل، والتجرد المطلق الذي يكون القصد الأعظم فيه رضوان الله، والهدف الأسمى فيه رعاية مصلحة عباد الله، ذلك أن أبا بكر جمع فكره، وأمضى استشاراته، لا يريد بذلك إلا وجه الله وخير أمة الإسلام.

الأمر الثالث: الخبرة بالرجال، ومعرفة أقدارهم، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم، لا بأموالهم ولا بثرواتهم، لا بحظوظهم الدنيوية، ولا بسمعتهم بين الناس إلا بما فيه تقوى الله، والقوة في الأخذ بدين الله، والتحمل للمسئولية، والأداء للأمانة، عجم الصديق الصحابة، نظر فيهم وهم أخيار أبرار، وأقمار مضيئة، ونجوم مشعة، فانتقى وانتخب وتخير وتدبر، فجاء بهذا الاختيار العظيم الذي بينه في خطبته لرجل شديد في وقت الشدة، لين في وقت اللين، عادل منصف حريص على أن يضع الأمور في مواضعها، وذلك أمر مهم، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن من علامات آخر الزمان تضييع الأمانة، وعندما سئل عن معناها قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).

ولقد كان الفاروق من بعد أبي بكر الرجل المميز في معرفة الرجال، وانتقائهم على أساس إيمانهم وإخلاصهم، وتقواهم وخوفهم من ربهم، وعلى أساس قوتهم وأهليتهم، وكفاءتهم في القيام بمهامهم.

ومن بعد ذلك أيضاً درس رابع في المشورة مع وضوح القضية، فكيف إذا كان الأمر ملتبساًَ.

فهذا الصديق كان قد مال إلى اختيار عمر، ومع ذلك يستشير هذا وهذا وذاك، ويستطيب نفوس الناس، ويستخرج ما في عقولهم، ثم يعلن، ثم يكتب حتى يحكم الأمر من جميع جوانبه؛ رعايةً لمصلحة الأمة، وسداً لباب الفتنة، ومنعاً لأسباب الاختلاف، وقد كان فعله رضي الله عنه وأرضاه هو الفعل الذي عصم الله به الأمة، وزاد من قوتها وانطلاقتها، بعد أن أخمد حرب الردة، وبعد أن أمضى الجيوش إلى بلاد فارس والروم، استطاع عمر في لحظات من بعد وفاة الصديق رضي الله عنه أن يمضي الأمور دون نزاع، ولا خلاف ولا توقف.

ومن بعد ذلك أمر خامس: وهو الصدق في أداء الأمانة والمشورة، كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكما قالوها في هذه الكلمات المشرقة المنيرة، ولا يستشار إلا المؤتمن، ولا يؤخذ الرأي إلا من الصادق المخلص، وتلك ومضات كثيرة من صفحةٍ واحدة.