للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طلب العلم العيني والكفائي وضوابطهما]

فيما يتعلق بالعلم أتحدث عن ملامح في منهجية العلم، وأذكر عشر نقاط: أولها: العينية والكفائية في طلب العلم.

لابد لنا أن نعرف أن قضية طلب العلم ليست قضية ذاتية تخضع للعواطف التي قد تمليها الأوضاع والأحوال على بعض الشباب، فإن بعضاً منهم قد يكون حديث عهد بالتزام وقريب عهد بإقبال على الخير، فإذا ارتاد مجالس العلم ويسمع عن طلب العلم وضرورته وأهميته وطلبة العلم والعلماء حينها يظل صدى هذه الكلمات يتردد في ذهنه فيندفع من غير بينة، ومن غير معرفة للأولويات وما هو أكثر أهمية وأولى تقديماً من غيره.

إن مسألة العلم مسألة لها ضوابطها الشرعية وأدلتها النصية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن لها تطبيقاتها العملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وسيرة كثير من علماء الأمة وأئمتها، فليست المسألة اندفاعاً عاطفياً ولا رغبة عند إنسان يحب اطلاعاً أو حفظاً أو يجيد بعض المسائل والبحث فيها، بل لابد له من مراعاة الضوابط الشرعية، ومن هنا قبل أن يقبل الطالب لابد أن يعرف ما هو الواجب العيني من طلب العلم؟ وما هو الواجب الكفائي؟ الواجب العيني: هو ما يجب على كل أحد بعينه، فهذا لا شك أنه الأول والمقدم الذي لا ينفك عنه مسلم مطلقاً، وأنه لابد أن يعلمه؛ لأنه لا يصح اعتقاده ويخلص ويبتعد من نواقض التوحيد ومداخلات الشرك إلا به، وهو الذي لا تصح عبادته إلا به؛ لأن به ينجو من الابتداع وغير ذلك من المخالفات الشرعية التي تبطل عبادته وتذهب صحتها وأجرها عند الله سبحانه وتعالى.

كما أن به معرفة ما يتعلق بالأحكام التي يفتقر إليها في معاملاته من زواج وطلاق، ويتعلق بمعاملاته المالية وغيرها، وألوان أخرى كثيرة.

إذاً: الواجب العيني هو المعلوم من الدين بالضرورة.

هذا الذي ينبغي ألا يتخلف عنه مسلم، وينبغي أن يكون أول ما يبدأ به على كل حال وفي كل آن.

إذاً: المسلم عندما يبلغ سن التكليف عليه أن يعرف دين الله عز وجل وأن يبدأ بهذه المعارف، ثم هناك فروض كفايات قد يحتاج إليها بعض الناس دون بعض، وقد يحتاج إليها المرء في وقت دون وقت، وقد مثل لها أهل العلم بالآتي: إن كان المسلم فقيراً ليس ذا مال فإنه لا تجب عليه في هذه الحالة معرفة أحكام الزكاة، سيما على وجه التفصيل، فإن وجد مالاً بلغ نصاباً لزمه أن يتعلم من أحكام الزكاة ما يخرج به حق الله عز وجل، وما يعرف به الحكم الشرعي في هذا الركن من أركان الإسلام، وكذلك الذي لم يتيسر له الحج قد لا يكون واجباً عليه في الحال معرفة أحكام الحج، فإذا عزم عليه وتوجه إليه لزمه أن يعرف ما تصح به هذه الفريضة، وما هي واجباتها وفرائضها؟ وما هي سننها وآدابها؟ وما يترتب على الإخلال بشيء مما يجب عليه أو يفترض أو يسن أو يستحب، إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه لتصح به عبادته وهكذا، فإذا أراد أن يتزوج تعلم أحكام النكاح والطلاق وما يلحق بذلك، وهناك علوم أخرى غير العلوم الشرعية المباشرة، وهي العلوم التي بها صلاح الناس في هذه الدنيا، وتسيير أمور حياتهم من طب وهندسة وحساب وغير ذلك، هذه واجبات كفائية تجب على الأمة بعمومها، فإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن لابد أن يكون في الأمة من ينتدب لها ويتفرغون لها ويبدعون فيها ويتوسعون في معارفها ودقائقها حتى يغني هؤلاء الأمة فيما تفتقر إليه من الطب أو الاقتصاد أو الهندسة أو الحساب أو غير ذلك من أسباب القوة المادية والمعنوية لهذه الأمة.

إذاً: لا ينبغي أن يختلط الأمر على المرء فيبدأ بما هو أقل أهمية قبل ما هو أعظم وأكثر أهمية.

إذاً: لابد أن نعرف أن هناك قسمين: العلوم غير الشرعية: وهي أوسع من علوم الشرع.

العلوم الشرعية وتنقسم إلى قسمين: علوم شرعية على هيئة فرض الكفاية، وعلوم شرعية على هيئة فرض العين، وبعد ذلك تأتي تقسيمات أخرى أذكر بعضاً منها: يقول ابن حجر رحمة الله عليه: المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف في أمر دينه وعبادته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص.

ويفصل ابن القيم رحمة الله عليه في أعلام الموقعين تفصيلاً أوسع وهو يذكر أنواع العلوم الأساسية، يقول: النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

ذكر ما ورد في الآية الجامعة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ} [البقرة:١٧٧] إلى آخر ما في هذه الآية.

النوع الثاني: علم شرائع الإسلام واللازم منها، وعلم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.

النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت الرسل والشرائع والكتب عليها: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣]، فهذه محرمات وردت على لسان كل رسول لا تباح قط، ولذلك أتى فيها بـ (إنما) المفيدة للحصر.

النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البيوعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه.

وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً، فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضاً، وبالجملة فالمطلوب والواجب على العبد من العلوم والأعمال ما إذا توقف عليه شيء منها كان ذلك الشيء واجباً وجوب الوسائل، يعني: على غرار القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا احتاج لأمر وجوبي ورأى أنه لا يمكن تطبيقه إلا بعلم بعض مسائله وفروعه، كان ذلك العلم الذي يوصله إلى تطبيق ذلك الحكم الواجب أمراً واجباً عليه.

وقال في آخر الأمر: ومدار هذه العلوم الشرعية على التفسير والحديث والفقه.

ويقول ابن عبد البر رحمة الله عليه: أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع.

قال: واختلفوا في تلخيص ذلك.

وساق مقالة طويلة ذكر فيها تفصيلاً من أمور الاعتقاد والعبادة والمعاملة التي يجب على المرء عيناً أن يعرفها.

وقد وضع بعضهم ضابطاً لما يتعلق بالفرض الكفائي، فقال: وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا على وجه الخصوص.

وذكر الغزالي أيضاً مقالة ضافية في ذلك قال فيها: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل: الحساب، ولا التجربة إليه مثل: الطب، ولا السماع مثل: اللغة.

أي: العلوم التي وردت عن طريق الوحي بالرسل والأنبياء.

ثم قال: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، ومنها ما هو مباح.

فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وغير ذلك، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.

ثم ذكر أنواعاً من هذه العلوم.

فإذاً: لابد للأخ المسلم أن يعرف ما يجب عليه عيناً، وذلك بمعرفة الأسس اللازمة التي هي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا يعذر المرء بجهلها، والتي يعرف بها أول دخوله في هذا الدين ونطقه بالشهادتين، وأول ذلك ما يتعلق بالإيمان والاعتقاد في ذات الله عز وجل وكتبه ورسله وأنبيائه واليوم الآخر والقدر خيره وشره على سبيل الإجمال، وليس المرء مطالباً على سبيل التفصيل، والرد على كل فرقة، والاستنباط من كل دليل؛ فإن ذلك ليس مطلوباً على سبيل الوجوب العيني، بل هو مخصوص بمن تهيأ لطلب العلم أو احتاج إليه، أو كان يرد على بعض من خالف أو ابتدع، أو كان ممن يستفتى ويسأل في مثل هذه المسائل.

ثم على المرء أن يتعلم ما يجب عليه من أمر العبادات من طهارة وصلاة وصيام وزكاة إن كان ذا مال وحج إن قصد إليه، فهذا لا شك أنه من أوجب الواجبات وألزم اللازمات، ثم بعد ذلك ما يتعلق بأمور المعاملات ومعرفة المحرمات بالإجماع وهي المعلومة من الدين بالضرورة، كحرمة الخمر وحرمة الزنا وغير ذلك مما يلحق بهما كالكذب ونحوه، ثم بعد ذلك للمرء أن يتوسع بما يحتاج إليه أو يرى ميله إليه إلى غير ذلك من الأنواع.