للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفات مع آيات تظهر التميز والتفرد]

نحن قصدنا بيان أمر المخالفة التي تظهر التميز والتفرد، فوقفات مع قليل من الآيات، ولها نظائر كثيرة لمن تأمل وتمعن.

يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:١٠٤]، آيات واضحات، (لا تَقُولُوا رَاعِنَا) نهي عن لفظة بكلمة واحدة، ما جلالتها وخطورتها؟ ما أهميتها وعظمتها حتى تتنزل فيها آيات تتلى إلى يوم قيام الساعة؟! (لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)، لم نبدل كلمة مكان كلمة؟ وهل هذا أمر جليل حتى يكون فيه مثل هذا التوجيه المصدر بالنداء الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟! استمع معي إلى ابن كثير في تفسيره وهو يجلي لنا ذلك، يقول رحمه الله: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا -وهذا لفظه بنصه- يعانون من الكلام ما فيه تورية؛ لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله! فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا، يورون بالرعونة، يقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، ينتقصون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستهزئون به، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله عز وجل عن ذلك.

قال ابن كثير: وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم إذا سلموا إنما كانوا يقولون: السام عليكم، والسام: هو الموت، قال: والغرض أن الله نهى عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً.

فهذه الكلمة لما كان فيها مدخل موافقة، ومزلة اختلال في المعنى، وإرادة إشاعة من اليهود -عليهم لعائن الله- نهانا الله عنها، وأمرنا أن يكون لنا غيرها حتى نتميز ونتفرد، وحتى نبتعد عن كل شبهة ورذيلة كان عليها أولئك القوم، بدلاً من (راعنا) قولوا: (انظرنا) وهي كلمة لا التباس فيها ولا اشتباه، كلمة مكان كلمة، ومع ذلك أمر الله عز وجل بها، وتنزلت بها آياته، فما بالكم بما هو أعظم من ذلك وأجل؟! قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: نهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سداً للذريعة؛ لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، فمطلوب منا أن نقطع الطريق على كل من يريد الإساءة إلى ديننا وإلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ويقصد إلى ذلك بالطرق الملتوية، والأساليب المخادعة.

ورد: (أن الفاروق عمر بن الخطاب وقعت في يده بعض صحف من التوراة، فحملها ليقرأ منها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحمر وجهه، ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ويحك والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي).

ما أغضبك يا رسول الله من صحف يقرؤها الفاروق الذي أخبرت أنه: (ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره)؟ أويخشى على الفاروق أن يتأثر بتلك الكلمات في تلك الكتب؟! كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في زمان التشريع، وبيان التأصيل للاعتقاد والمبادئ الإسلامية يقول: إن الكمال المطلق فيما آتاني الله عز وجل، وإن الرسل والأنبياء كما أخبر الله عز وجل قد أخذوا العهود والمواثيق على أتباعهم إن أدركوا يوم محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به ويتبعوه.

وأنتقل بكم إلى آية أخرى أكتفي بها عن آيات كثيرة، يقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية العظيمة الجليلة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:٤٤ - ٤٦] هذا هو وصفهم، وأنتقل بكم إلى بيان معاني هذه الآيات من كلام ابن كثير في تفسيره، يقول رحمه الله: يخبر تبارك وتعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الآخرين عليهم السلام في صفة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يودون أن تكفروا بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) وهذا إخبار على سبيل التحذير.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) لا يريدون بكم خيراً، ولا يقصدون بكم حسناً، وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى ويحذركم منهم.

ثم بين وصفهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله؛ قصداً منهم وافتراءً، فالذين أولوا وغيروا مراد كلام الله عز وجل ما بالهم لا يغيرون المواثيق والقوانين وصيغ الاتفاقات والقرارات الدولية التي في كل يوم يصدر لها تفسير جديد وتأويل آخر؟ وذلك لا يستغرب على قوم حرفوا كلام الله عز وجل.

ثم يقول الله جل وعلا: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) سمعنا قولك -يا محمد- ولا نطيعك فيه، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم.

(وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع كلامنا ولست بسامع، وذلك على سبيل التنقص والاستهزاء، اسمع ما نقول لا سمعت على سبيل الدعاء، وهذا استهزاء منهم واستهتار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! بين ما أشارت إليه الآية السابقة: (وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) تحويراً وعطفاً للألسنة لتغيير الكلمات.

(وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) ولذلك حذرنا الله عز وجل من هذا.

ثم قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: وقال القاضي أبو محمد: هذه الآية تقتضي توبيخاً للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود في سؤالهم عن الدين أو في موالاة أو فيما أشبه ذلك.

هذه وقفات وومضات مختصرات من آيات يوجد غيرها كثير، تبين أهمية قضية التميز والتفرد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التشبه والتحذير منه: (من تشبه بقوم فهو منهم) وكثرت النصوص والآيات والأحاديث المحذرة من تلك الموافقات هنا أو هناك، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما يكون من طائفة من أمته في آخر الزمان: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: فمن غيرهم؟