للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الارتباط والتعلق بالمحبوب]

الخامس: الارتباط والتعلق: وهذا من أظهر آثار العواطف؛ فإنك إن أحببت الله ارتبطت به، وتعلقت في شأن النبي عليه الصلاة والسلام وإخوانك المؤمنين، وشعائر هذا الدين، والارتباط والتعلق أمره بين لا يخفى على أحد، كما قال المحبون من قبل: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار ولذلك وقفوا على الأطلال، ووصفوا الخيام والجمال، وكل ذلك من أثر ذلك التعلق والارتباط، وكما قال قائلهم أيضاً: فلو قيل للمجنون ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبارٌ من تراب نعالها أحب لنفسي وأشفى لبلواها أي: كل شيء يذكر بذلك المحبوب ويصل به يكون به أُنس النفس وقرة العين.

وتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإن الأول هو الفطرة البشرية التي جاء بها هذا الدين، فليس هناك ترهبن ولا تبتل ولا انقطاع عن ملذات الحياة العادية البشرية، والثاني هو أن هناك محبة أسمى وهي التي يتحقق فيها الارتباط بالله سبحانه وتعالى، ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: (أرحنا بها يا بلال).

العاطفة المتدفقة تربط كل شيء يذكرها بالمحبوب وكل أمر يربطها به وكل سبب يعلقها به ويجعلها لا تنساه مطلقاً، ولذلك كان للذكر أثر في طمأنينة القلب، وحلاوته في النفس، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره ولم ينسه مطلقاً، حتى إذا رأى الرؤيا في منامه فإذا به يراها متعلقة بهذا الأمر، فإذا أصابه مرض وصار يهذي بما لا يعرف إذا بهذيانه لا يذكر إلا المحب أو الحبيب الذي لا ينساه مطلقاً، ولذلك تجد هذه الآثار واضحة قوية، ولها أمثلة في جانب الخير وأمثلة في جانب الشهوة العادية، أو المتجاوزة للحد، وإن كان كثير من العلماء من أمثال ابن القيم وغيره جعلوا بعض أبيات المحبة التي ذكرها العشاق في المعاني الإيمانية في الصلة بين العبد وربه، واستشهدوا بهذه الأبيات في معاني المحبة الإيمانية بفروعها المختلفة، ولذلك كل هذه الآثار لها شواهدها في حياة الصحابة رضوان الله عليهم وفي حياة صدر الأمة عندما كان عندهم بذل وتضحية في سبيل هذا الدين، كما قال الشاعر: كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولها أزهارا لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي صنع الوجود وقدر الأقدارا ورءوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا لقد كان هذا الحب الإيماني نصرةً وتضحية وبذلاً لهذا الدين، وكان هناك التعلق أيضاً كما جاء في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه مرةً وقد تغير لونه، فقال له: (ما بك يا ثوبان؟! فقال يا رسول الله! ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشةً شديدةً حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف ألا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أرآك أبداً، فنزل قوله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩])، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) وهذا كله دليل وشاهد على صدق تلك المحبة الإيمانية، كما وقع من خبيب بن عدي رضي الله عنهم لما جيء به ليقتل أو ليصلب فقيل له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ قال: (والله! ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ وأني جالس في أهلي) فقال أبو سفيان -وكان في ذلك الوقت على الكفر-: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.

هذه هي العاطفة الصادقة إذا سارت في المشارب الإيمانية والمناهج الإسلامية.