للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة بني إسرائيل وما جسدته من معنى للحديث]

ننتقل نقلة قصيرة إلى آية تبين المعنى الذي جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية قصة وعبرة، ومثل وحكمة، قصها الله عز وجل لنا في شأن بني إسرائيل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:١٦٣].

ثم جاء الوصف من بعد فيما كان من أثر لبقية أهل القرية إزاء الموقف الذي اعتدى فيه المعتدون على ما حرم الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:١٦٤].

ماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:١٦٥].

نهى الله بني إسرائيل عن الصيد في يوم السبت، وجعله خاصاً بالتفرغ لطاعة الله، والعبادة والانقطاع لها، وترك العمل، وابتلاهم بسبب فسقهم -كما قال جل وعلا- بأن جعل الأسماك تظهر في يوم السبت كأنما تقول: من يصيدني؟ آمنة ظاهرة على سطح الماء، سهلة ميسورة، قريبة مغرية، فلم يستطع نفر منهم أن يمتنع من ذلك، وأراد الصيد، وأخذ بالحيل الإبليسية الشيطانية، فجعلوا يحفرون الأخاديد، ويضعون الشباك في يوم الجمعة، فتدخل فيها الأسماك وينحدر الماء وتقع الأسماك الأخرى في الشباك، فلا يأخذونها ولا يلمسونها في السبت، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، زاعمين أنهم مبرءون من المعصية، مجانبين لارتكاب المحرم والاعتداء على حدود الله، فجاءت الغيرة الإيمانية، والانتصار لحرمات الله من قوم مؤمنين صادقين، يعلمون أن الضرر سيعم ولا يخص، وأن الأثر سيحيق بهم كما يحيق بغيرهم، فجاءوا ناهين، وجاءوا معترضين، وجاءوا مذكرين.

فجاءت فئة ثالثة فقالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:١٦٤] لا فائدة من وعظ أولئك، فهم قوم لا ينفع فيهم الوعظ، ولا يثمر فيهم التذكير، ولا يرعوون ولا يرتجعون عن مثل هذا، فجاء

الجواب

{ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:١٦٤] نقوم بما أوجب الله علينا نؤدي فريضة الله عز وجل فينا نحقق حقيقة إيماننا نترجم صورة مشاعرنا نبين ونعلن كلمة الله عز وجل وحكمه حتى لا يلتبس الأمر على الناس، ولا يختلط الحق بالباطل، ولا ينقلب المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.

(لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) لسنا معنيين ولا مكلفين بأن يتغيروا وأن يتركوا المنكر، فذلك أمره إلى الله، إنك لا تهدي من أحببت، حسبك أن تؤدي الأمر أن تقول الذكرى أن تحذر بالنهي أن توبخ بما يستطاع، وبكل وسيلة يمكن أن يكون فيها أثر نافع مشروع، فانتهت النتيجة إلى ما سمعنا: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:١٦٥].

في وضوح وجلاء بأن الذين قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلنوا حكم الله، وأظهروا الغيرة على حرمات الله كانوا من الناجين: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف:١٦٥] أي: الذين اعتدوا وارتكبوا المنكر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:١٦٥].

ثم بقي السؤال ما شأن أولئك الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)؟! هل نجوا أم عذبوا؟! قال ابن كثير رحمه الله: لم يذكر؛ لأنهم ساكتون، فليس هناك فعل لهم يوجب مدحهم، ولم يرتكبوا المنكر فيوجب ذمهم، وإن كان أهل التفسير ذكروا فيما ذكروا أنهم من الناجين في الجملة لأسباب ظاهرة، وهو أن النص لم يتناولهم، ولم يكونوا ظالمين أي: فاعلين للمنكر، ولأمر آخر، وهو أنهم إنما قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ).

للدلالة على أنهم قد نهوا من قبل فلم يستجب لهم، فقالوا مثل هذا، أو أنهم في ظاهر قولهم أبدوا إنكارهم بلسانهم وبما يعتمر في قلوبهم، لكن الأمر حينئذ أصبح ظاهراً في أن الجميع ينالهم الأثر في آخر الأمر، حتى وإن برئت ذممهم عند الله في الآخرة إلا أن عقوبة الدنيا وما يحصل من البلاء هو من سنة الله سبحانه وتعالى.

هكذا قال ابن حجر إقامة الحدود -أي: في الدنيا- يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية، والساكت بالرضا بها، وفي الحديث استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، والأمر في هذا ظاهر بين، وثمة أمور لا بد أن نقف معها هنا لأنها تحكي واقعنا.

ما قص الله علينا القصص عموماً وقصص بني إسرائيل خصوصاً إلا للعظة والعبرة، ألم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما تكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربطنا بقصة بني إسرائيل، وأنهم وقع فيهم الهلاك بسبب أنهم كانوا إذا وقع فيهم المنكر لم ينكروه، واستشهد بقوله جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:٧٨]؟! وذكر الله العلة في ذلك بأنهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ} [المائدة:٧٩].