للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فقد القلوب الواعية للقرآن المتدبرة لمعانيه]

أي شيء نفقده؟ إنا نفقد أعظم شيء، وأي شيء سنجده إذا فقدنا ذلك: هل سنجد الطعام والشراب، وصحة في الأبدان نغتر بها، ونظن أنها من نعم الله علينا، وقد تكون في كثير من الأحوال استدراجاً للغافلين وإمهالاً للمسرفين؟ نسأل الله عز وجل السلامة.

يقو تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:١٤٦]، أليست القلوب اليوم إلا ما رحم الله مصروفة عن آيات الله فلا تكاد تعيها ولا تتدبرها؟ يقول سفيان الثوري رحمه الله في تعليقه على هذه الآية: إنها في المذنبين المسرفين المتكبرين عن الحق يصرفهم الله فلا يتدبرون آياته.

ويقول الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، إن لم تشعر بتدبر القرآن، وتأثر القلب به فاعلم أن الأقفال والأغلاق قد أحكمت.

انتبه إلى هذه الآيات العظيمة: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:٢١] فإن لم تكن هناك خشية فإن القلوب أشد قسوة من الصخور الصماء في الجبال الشاهقة: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:٣١] والتقدير: لكان هذا القرآن، هذا القرآن من قوته وعظمته وشدة معانيه يسير الجبال، ويقطع الأرض، ويحيي الموتى، فما باله لا يلقى آذاناً مصغية، وقلوباً حية، ونفوساً متأثرة؟! أفليس حقاً علينا أن نبكي على أنفسنا، ونقيم العزاء على قلوبنا، وأن نستشعر أن خسارتنا هذه هي مبدأ كل الخسارات التي توالت في حياة أمتنا؟! يوم ضيعنا هذه المشاعر الإيمانية، والحساسية الروحانية، والشفافية التعبدية، والروحانية اليقينية، فقدنا من بعد ذلك الطاعات، وأكثرنا من المعاصي، وتوالت فينا الجراحات والنكبات، وكما قال ابن القيم رحمه الله: الذنوب جراحات، ورب جرح يقع في مقتل، فكيف إذا أصاب الجرح قلبك؟! إنه يوشك أن ينزف قليلاً ثم يعلن شهادة الوفاة.

واستمع إلى الإمام سحنون أحد أعيان فقهاء المالكية وقد وقع في ذنب، لكنه كان له قلب حي، فمضى على ضفاف دجلة في بغداد، وأخذ عوداً يضرب به على قدميه، مطأطئاً رأسه، متفكراً في حاله، متدبراً فيما وقع منه، وإذا به يقول: كان لي قلب أعيش به ضاع مني في تقلبه رب فاردده علي فقد ضاق صدري في تطلبه وأغث ما دام بي رمق يا غياث المستغيث به ذنب واحد أقض مضجعه، وجعله يتفقد نفسه، لأنه شعر أنه قد ضيع فيه قلبه الحي، وإيمانه اليقظ، وروحه الشفافة، وشعوره المرهف، ذلك الذي كان منه تيقظ وتنبه، حتى سأل ربه أن يرد عليه قلبه لتعود إليه حياته، وليحيا معه إيمانه، وذلك ما كان من أولئك النفر من الأجيال الصالحة ومن أسلافنا رضوان الله عليهم.