للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شهادة الملائكة]

الغنيمة الثانية: الشهادة الملكية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨] وفي حديث أبي هريرة الذي يذكره العلماء في سياق تفسير هذه الآية قال رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فهذه شهادة من ملائكة الرحمن الذين يتنزلون من السماء كل يوم وليلة عند صلاة الفجر وصلاة العصر، فملائكة نازلون وملائكة صاعدون، والنازلون سيسألون، والصاعدون سيسألون عما يفعل عباد الله المؤمنون، ويأتي الجواب لمن كان من المستيقظين لا من النائمين فيقال عنه ويدرج ضمن الشهادة باسمه وبوصفه -والله عز وجل به عليم قبل سؤال ملائكته-: (تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون).

قال الألوسي في تفسيره معلقاً على قوله جل وعلا في قرآن الفجر: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨] قال: أخرج النسائي وابن ماجة والترمذي والحاكم -وصححاه- وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية: (تشهده- أي: قرآن الفجر- ملائكة الليل وملائكة النهار).

قال الألوسي: وقيل: يشهده الكثير من المصلين في العادة.

وقيل: من حقه -أي: هذا القرآن- في صلاة الفجر أن تشهده الجماعة الكثيرة.

وقيل: تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة.

من تبدل الضياء بالظلمة، والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت.

وهو احتمال أبداه بعض العلماء، وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا هو المراد من قوله: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨].

وكما قال هنا: لا حصر للمدلول؛ لأن هناك أسباباً عديدة يمكن أن تكون من أسباب شهادة هذا القرآن وهذه الصلاة، ولا ينبغي أن يقال ذلك في غيره.

ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر الفجر؛ لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراماً ومتلقٍ كراماً -أي: الملائكة- فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل، ويرتاح له النازل.

وما أعظم أن تشهد لك ملائكة الرحمن التي جعلها الله سبحانه وتعالى من المخلوقات العابدة المسبحة له سبحانه جل وعلا: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠]، والذين جعلهم الله سبحانه وتعالى لا يعصونه سبحانه وتعالى أبداً، فهؤلاء الملائكة يأتون بالأعداد العظيمة المتكاثرة وبالآلاف المؤلفة وبما لا يحصيه العد، فيشهدون المؤمنين وهم في صلاة الفجر وهم في صلاة العصر، فكيف يكون حال ذلك النائم الذي تفوته مثل هذه الغنائم؟! وهذه شهادة عظيمة عند ملك عظيم هو رب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى، وانظر كيف يسأل عنك رب العباد سبحانه وتعالى ملائكته، وتشهد ملائكته عنده جل وعلا بشهادة أنك فيها من العابدين ومن المصلين ومن المستيقظين ومن المبادرين ومن المسارعين ومن أصحاب الهمم العالية والمراتب الرفيعة، فهذا لا شك أنه من أعظم هذه الغنائم، كما قال صاحب الظلال في ظلاله: ولهذين الآنين -أي: آن الفجر وآن العصر- خاصيتهما، وهما إدبار الليل وإقبال النهار، ولهما تعلق، ولهما وقعهما العميق في النفس؛ فإن مقدم الليل وزحف الظلام كمطلع النور وانكشاف الظلمة؛ كلاهما يخشع فيه القلب، وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة، ولا تختل مرة، وللقرآن إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته ونسماته الرخية، وهدوئه ونبضه بالحركة وتنفسه بالحياة، فما أجمل أن تكون في هذا الوقت مستيقظاً عابداً تالياً للقرآن ساجداً لله سبحانه وتعالى.