للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقياس الفرح والحزن عند الصحابة]

كانوا رضي الله عنهم إذا نبغ الابن منهم في أمر الدين عظموه، كما ورد في صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما شجرة مثلها كمثل المسلم، قال: فوقع الناس في شجر البوادي - يعني يخمنون في أنواع من الشجر- ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت فسكت، وفي رواية: فإذا في القوم أبو بكر وعمر فسكت، وفي رواية: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أصغرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة)، فأخبرت بها عمر أي: بعد ذلك قال لأبيه عمر بن الخطاب: أنا عرفتها قبل أن يقولها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: لوددت أنك قلتها، أي: كان سيكون في قمة الفرح، وكأنه أعطي الدنيا بما فيها لو أن ابنه قال هذه الكلمة، هل ليفتخر؟ لا، ولكن ليبرز علمه وفقهه وفطنته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الصحابة كيف كانوا يفرحون؟ متى كانوا يحزنون؟ كل ذلك متعلق بأمر الدين، وبما يفتح الله لهم من الخير.

هذا حنظلة بن أبي عامر الأسيدي كما ورد في صحيح مسلم: كان كسف البال مغتماً، منكس الرأس، فلقيه أبو بكر، فقال له: ما بالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة! قال: وما ذاك؟ قال: إنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن الإيمان والجنة والنار، فكأنا نرى كل ذلك بأعيننا، فإذا انقلبنا إلى أهلنا وعافسنا الأزواج والنساء تغيرنا، وفي رواية: أنكرنا نفوسنا.

أبو بكر كان غير منتبه لهذا الأمر، فلما قال له ذلك فكر، فإذا الحال هو الحال، والأمر عنده كما هو عنده، قال: لئن كان كما تقول فكلنا ذلك الرجل، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تدومون على حالكم التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، تلك ساعتا الصحابة، وليست كالتي عندنا التي يستشهد بها الناس ويطبقونها تطبيقاً سيئاً ساعة فيها شيء من الطاعة قليل، وساعة فيها من المعاصي ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

فإذاً: ما بعد الامتحانات نفرح بأمر الاختبار إذا نجحنا، فأين فرحنا بأمر الدين، وفرحنا بالتوفيق للطاعات؟ وأين حزننا إذا فاتتنا الصلوات، وقصرنا في هذا الأمر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)؟ وكما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في صورة فريدة رائعة لا يوجد في التاريخ مثلها أبداً، الذين أطلق عليهم اسم: البكائين جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه للجهاد والغزو في غزوة تبوك وهم صفر اليدين، ليس معهم مال، ولا زاد، ولا رواحل يركبون عليها، قالوا: يا رسول الله! احملنا معك نجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أجد ما أحملكم عليه)، فهل قالوا: فرصة، مشكلة وانزاحت، منك ولا من غيرك؟ لا.

بل: {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:٩٢]، حزنوا أن فاتتهم هذه الفرصة من الطاعة، وهي فرصة شاقة شديدة في حر شديد، في صحراء ضاربة عبر الجزيرة إلى أقصى شمالها، لا يلقون فيها أرضاً خضراء، ولا أهلاً أحباء، وإنما يلقون فيها موتاً أحمر، وسيوفاً مشرعة، مع ذلك حزنوا من صميم قلوبهم ألا يجدوا ما ينفقون حزناً على ما فاتهم من الطاعة.

هكذا ينبغي أن تكون مشاعرنا؛ فرحاً بالطاعة وحزناً على فواتها، وعلى ما يقع من تفريط في جنب الله سبحانه وتعالى، لا نفرح بما قد يكون من أمر الدنيا، فإن فرحنا لأنه يعين على الطاعة والآخرة فلا بأس؛ فينبغي أن نتنبه في هذه المسألة.