للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومفهومها]

الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، وشرفنا بالانتساب للنبي العدنان عليه الصلاة والسلام، نحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من النعم، وما وقى ودفع من النقم، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.

والصلاة والسلام التامان الأكملان على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، علم الهدى، ومنار التقى، محمد خير البرية، وسيد البشرية صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: فالحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم منزلة رفيعة، والحديث عن محبته عليه الصلاة والسلام متعة عظيمة، ثم الألسنة تترطب بذكره والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأما الآذان فتتشنف بسماع سيرته وهديه وحديثه عليه الصلاة والسلام، وأما العقول فتخضع لما ثبت من الحكم والسنة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، وأما الجوارح والأعضاء فتنتفع وتتمتع بموافقة هديه وفعله وحاله صلى الله عليه وسلم، بل حياتنا كلها مرتبطة بهديه وسيرته وسنته عليه الصلاة والسلام.

وما عسى أن يكون الحديث عن محبته صلى الله عليه وسلم؟ وهل يمكن أن يوفى مثل هذا الموضوع حقه في سويعة من الزمان، أو في بضع محاضرات وإن كثرت؟ إن حقه وقدره ومقامه والواجب له عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك كله، ولكن حسبنا أن يكون لنا في مثل هذه الأوقات ما يحيي قلوبنا، وينشط عزائمنا، ويقوي هممنا، ويبعث نشاطنا، ويحرك مشاعرنا، ويؤجج عواطفنا، لنرتبط ارتباطً أوثق، ونتبع اتباعاً أكمل لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حتى ننال خير الدنيا والآخرة وفلاح الدنيا ونجاة الآخرة، بإذن الله عز وجل.

وعندما نظرت في هذا الموضوع رأيته كمحيط متلاطم الأمواج، قعره عميق، ودرره كثيرة وعظيمة، فعسى أن نقتبس شيئاً من ذلك وننتفع به بعون الله سبحانه وتعالى.

هاهنا وقفات نبدأها بمفهوم ومعنى محبة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ونعرج من بعد على حكم هذه المحبة، ثم نقف مع دواعيها التي تحث عليها وتقرب إليها، ثم نتوقف عند الأسباب التي تجلب تلك المحبة، لنخلص منها إلى الصور والمظاهر التي تبديها لنا وتكشفها لنا في واقع مشاعرنا وكلماتنا وأفعالنا، ثم وقفة قبل الختام في ثمار هذه المحبة وخيراتها وآثارها، لننتهي إلى المحبة بين الغلو والجفاء، ولعلنا نستطيع أن نلم بذلك وإن كان في الأمر عسر، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال القائل: أبر بني الدنيا وأعظم من شكر وأكرم مخلوق على سائر البشر به الله قد أهدى إلى الناس رحمةً ومنه ضياء الحق في الكون قد ظهر تبارك ربي إذ أعد محمداً وزكاه بالتقوى وبالعلم والخبر ثبات اعتقاد الحق من أخلاقه وخير عباد الله أقدر من صبر جهير بأمر الله يدعو مبشراً وينصح من لاقاه بالآي والنذر حري بإصلاح الفساد ومرشد إلى سبل الخيرات في البدو والحضر دعا الناس بالتوحيد والحب والوفا وجادل بالحسنى وأقنع بالأثر ذرا الهمة القعساء بعض صفاته وأقدم مقدام وأحلم من قدر رعاه إله الكون خير رعاية فأنبت نبتاً طيب الأصل والثمر عليه الصلاة والسلام.

والمحبة في لغة العرب يعرفونها بضدها لوضوحها وجلائها، فإن ذهبت إلى جل المعاجم وجدتهم يقولون: المحبة ضد الكره والبغض، وأُحِبُّه أي: أوده.

وشخص بعضهم هذا المعنى تشخيصاً أوسع فقال: أحببت فلاناً في الأصل بمعنى: أصبت حبة قلبه.

أي: شغاف قلبه وكبد قلبه وفؤاده.

والمقصود أن المشاعر تتسلل في هذه الموافقة والمجانسة والميل إلى أعماق الفؤاد وسويداء القلب فتصيب حبته، أي: جوهره وأصله ومكمنه، فتكون حينئذ ليست عرضاً ظاهراً ولا صوراً جوفاء، بل حقيقة تنبض بها خفقات القلب، وتظهر في مشاعر النفس، بل تبدو في بريق العين، وقسمات الوجه، وابتسامة الثغر، وحسن الثناء والمدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه المحبة قال عنها ابن القيم ووافقه ابن حجر عليها: المحبة لا تحد -أي: لا يذكر لها تعريف-؛ إذ هي أمر ينبعث بالنفس يصعب التعبير عنه.

ولعمري إنه لكلام دقيق، فهل تستطيع أن تقول: إني أحب فلاناً عشرة أرطال، وفلاناً عشرين رطلاً.

كلا لا تستطيع، وهل تستطيع أن تكتشف للحب سبباً؟ بعض الناس تلقاه فترى كأن فؤادك قد مال إليه، وقلبك قد هفا له، وبعض الناس قد تعاشره دهراً وما يزال في قلبك انقباض عنه، وفي نفسك وحشة منه، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالمحبة سر من أعظم ما تتجلى به عظمة خلق الله في هذا الإنسان.

ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال فكم من محبوب لكلمة أو لموقف ربما تغير القلب عليه، ونفرت النفس منه، ولذلك هذه العواطف والمشاعر لا تضبط بهذه الكلمات والتعريفات، وإن كان قد ذكر بعض العلماء للمحبة تعريفات اصطلاحية كثيرة، من ذلك ما قاله القاضي عياض رحمه الله في شفائه: المحبة الميل إلى ما يوافق المحبوب.

عندما توافقه وتجانسه وتميل إليه وتتبعه فذلك دليل المحبة، لكن لو وقفنا لوجدنا أن هذا التعريف ليس تعريفاً للمحبة، بل هو وصف لأثرها، فالمحبة انبعثت في القلب فمال الإنسان إلى من يحبه ووافقه، وهذا أمره واضح.

ثم المحبة لها جوانب، منها محبة الاستلذاذ، كحب الصور الجميلة والمناظر والأطعمة والأشربة، تلك محبة فطرية، أو تكون محبة بإدراك العقل، وتلك المحبة المعنوية التي تكون لمحبة الخصال الشريفة والأخلاق الفاضلة والمواقف الحسنة، وهناك محبة تكون كذلك لمن أحسن إليك وقدم لك معروفاً، فتنبعث المحبة حينئذ لتكون ضرباً من ضروب الحمد والشكر، فينبعث الثناء بعد ذلك ترجمة لها وتوضيحاً لمعانيها.

قال الإمام النووي رحمه الله: وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم بما جمع من الجمال الظاهري والباطني، وكمال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين لهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم، والإبعاد من الجحيم، فإن نظرت إلى وصف زينته صلى الله عليه وسلم فجمال ما بعده جمال، وإن نظرت إلى أخلاقه وخلاله فكمال ما بعده كمال، وإن نظرت إلى إحسانه وفضله على الناس جميعاً وعلى المسلمين خصوصاً فوفاء ما بعده وفاء، فمن هنا تعظم محبته صلى الله عليه وسلم، ويستولي في المحبة على كل صورها وأعظم مراتبها وأعلى درجاتها، فهو صلى الله عليه وسلم الحري أن تنبعث محبة القلوب والنفوس له في كل لحظة وثانية، وحركة وسكنة، وقول وصمت، وفي كل تقلبات حياتنا، ولذلك ينبغي أن ندرك عظمة هذه المحبة.

ويقول ابن تيمية: وليس للخلق محبة أعظم ولا أتم من محبة المؤمن لربه، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحب لأجل الله، ويطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله.

وذلك ما سنفيض القول فيه في بعض تلك الأحوال، وحسبي أن نعرج على هذه المعاني.

وهنا وقفة نتمم بها ما بدأناه، فنحن نتعلق ونرتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم من جوانب شتى: في جانب العقل معرفة وعلماً، نقرأ ونحفظ سيرته وحديثه وهديه وسنته، والواجب منها والمندوب ونحو ذلك، ومحبة بالقلب، وهي عاطفة مشبوبة، ومشاعر جياشة، ومحبة متدفقة، وميل عاصف، فالنفس تتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من المعاني الحسية والمعنوية، ثم محبة بالجوارح تترجم فيها المحبة إلى الاتباع لسنته وعمله وفعله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن نقول: إن المحبة اتباع فحسب، فأين مشاعر القلب؟ ولا يصلح أن نقول: إنها الحب والعاطفة الجياشة، فأين صدق الاتباع؟ لا ينفع هذا وحده، فأين المعرفة والعلم التي يؤسس بها من فقه سيرته وهديه وأحواله عليه الصلاة والسلام؟ لذا فنحن نرتبط في هذه المحبة بالقلب والنفس والعقل والفكر وبسائر الجوارح والأحوال والأعمال، فتكمل حينئذ المحبة لتكون هي المحبة الصادقة الخالصة الحقيقية العملية الباطنية، فتكتمل من كل جوانبها لنؤدي بعض حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا.