للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء]

هنا وقفة أخيرة، وأظن -والله أعلم- أننا كنا مستمتعين بهذا الحديث، ومما ذكرنا من الآيات والأحاديث في عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته، ومواقف الصحابة إن هذه المحبة التي قلناها ما بال بعضنا يفسدها بغلو يخرج عن حد الاعتدال، أو جفاء يبتعد فيه المسلم عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم محبته عليه الصلاة والسلام، والأمر في هذا يطول كثيراً، والشذوذ والخلاف والخروج عن مقتضى سنته ومحبته في هذا الباب كثير، وخير الأمور أوسطها، فالغلو خرج به قوم إلى صور كثيرة لا تخفى من حيث الواقع، لكني أذكرها من حيث المنهج والمبدأ، فمنهم من يجعل المدح مدخلاً لذكر ما هو خالص مستحق لله عز وجل لا يجوز أن يشاركه فيه غيره، ولا نصف به غيره وإن كان هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ادعيَّ لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما هو حق لله ومن خصائص الله سبحانه وتعالى فهذا يأباه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمه للناس في وقته وزمانه، كما قال: (لا تقل: ما شاء الله وشئت.

ولكن قل: ما شاء الله، ثم شئت).

وبعضهم يقول: هذه ألفاظ تعبر عن المشاعر وما نقصد بها عين هذه الألفاظ.

نقول: سبحان الله! هل أنتم أعلم أو أحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لم ترك التنبيه على الألفاظ إذا كانت ليست مؤثرة، وليست بذات تأثير في النفس والفكر والعقل، وكانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويثنون عليه، وهو يقول عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ولكنه يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم) كيف أطروه؟ قالوا: هو الله.

وخرجوا به عن حد بشريته ونبوته، وخرجوا به عن حد تعظيمه الذي ينافي مقامه ومكانه، فهذا غلو ليس مطلوباً بحال.

وضرب آخر من الغلو، وهو الإتيان بمخالفات عملية فعلية لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بادعاء المحبة، أو في أوقات وأفعال وأعمال وأحوال تدعى فيها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاجتماع لمحبته مع وجود ما هو مذموم من الاختلاط والغناء والخروج عن حد الاعتدال، أو ما هو مضمن من ادعاء أمور غيبية بحلول روحه أو تجسد روحه أو رؤيته يقظة وغير ذلك من هذه الأمور التي لا تثبت، بل يثبت في عموم الأدلة وبعض الأحوال في خصوصهم ما يناقضها ويعارضها، فهذا ادعاء ليس له دليل وليس له حجة، بل هو -كما قلنا- معارض.

ثم أيضاً أمر ثالث من الغلو، وهو الادعاء والاختراع لأمور وأقوال وأحوال لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا الصلاة عليه، ووردت في أحاديثه صيغ كثيرة من الصلوات، وهناك صيغ فيها إطلاق للصلاة والسلام عليه عدد قطر الأمطار وهذا لا بأس به، لكن أن نخصص صلوات معينة لابد من أن تحفظ وتذكر بعدد من المرات من أين لنا هذا؟ ومن أين لنا أن نوجب على الناس أو أن نسن لهم أو أن نشرع لهم ما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلامه أوثق وأقوى، وهو الذي أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام؟ ونجد كذلك ادعاءات كثيرة فيما يتعلق بالأقوال والأحاديث بعضها ضعيف وبعضها موضوع، وبعضها لا يثبت، ومع كل هذا يقال وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بادعاء الرغبة في المحبة، أو التحبيب، هذا كله خارج عن حد الاعتدال.

ويمكن أن نقول: هناك تنبيهان أساسيان في هذا: أولهما أنه يجب على المسلم المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين ما هو حق لله عز وجل ولا يجوز أن يوصف به ولا أن ينسب إلا لله عز وجل، وبين ما هو حق لرسوله صلى الله عليه وسلم.

فتعظيم الالتجاء وطلب كشف الضراء وغير ذلك أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، وبين في نصوص القرآن ما يدل على ذلك، وهذا وغيره لووا أعناق بعض النصوص حتى توصلت إلى مثل هذا.

ثانيهما: التفريق بين صور التعظيم المشروع أو الداخل في دائرة المشروع وبين ما هو معلوم وظاهر أنه مخالف لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا باب طويل.

وأما الجفاء فكما أننا ننكر الغلو ونحذر منه فكذلك الجفاء، فبعض الناس في قلبه شيء من جفاء ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، ولا يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذُكر، وإذا ذُكر مرة صلى، وإذا تكرر ذكره ثانية أو ثالثة لم يصل، كأن الصلاة تشق عليه أو ثقيلة على لسانه، حتى إنه يترك زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام والتعلق بسنته، إلى غير ذلك من صور كثيرة.

ويمكن أن نذكر بعضاً من صور الجفاء، فمنها: البعد عن السنة باطناً وظاهراً، فترك سنن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب من الجفاء ومجانبة محبته عليه الصلاة والسلام، ولذلك ليست المحبة ادعاءً؛ إذ كثير من أحوالنا ظاهراً وباطناً فيها مخالفة للرسول، فكيف لا نشعر أن في هذا نقصاً لمحبتنا للرسول عليه الصلاة والسلام؟ وكذلك رد الأحاديث الثابتة والصحيحة، وهذا ضرب كبير من الجفاء والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: (ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله) يعني: ليس هناك مكان أو اعتبار لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فيقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن ما أحل رسول الله كما أحل الله، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله) ثم كذلك نرى الآن الكثير من الناس يتحدثون بموجب مفسدات عقولهم، يقول لك: هذا حديث لا يعقل، وهذا لا يصلح في هذا الزمان.

هذا كله ضرب من المخاطر العظيمة في شأن المحبة، بل في شأن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكذلك العدول عن سيرته، وعدم الهيبة والتعظيم والإجلال عند ذكر حديثه، وهذا باب طويل سيأتينا ذكر له إن شاء الله تعالى، ولذلك نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:٢].

وعرف الصحابة ذلك، فكان ثابت بن قيس ممن اعتزلوا مجلس النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه جهوري الصوت، ومن بعده عمر بن الخطاب قال لرجلين كانا يرفعان صوتيهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أنكما من غير أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.

فحرمته حياً كحرمته ميتاً، عليه الصلاة والسلام.

ومن الجفاء هجران السنن المكانية، بأن نهجر زيارة مسجده، وزيارة مسجد قباء، والأماكن التي كان يتنقل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل قدما توافق قدماً، أو جبهة توافق جبهةً، وتستشعر وأنت في الروضة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنت في أحد كل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تحيي في قلبك هذه المعاني، وقد وجدت شباباً في الجامعات لم يذهبوا إلى المدينة مطلقاً وهم من أهل هذه البلاد، لم يذهبوا إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يروا مسجده، ولم يزوروا قبره، ولم يصلوا في روضته، ولم يشهدوا قباء، ولم يروا جبل أحد، كيف يكون هذا والناس لا نقول: يضربون أكباد الإبل، وإنما يطيرون بالطائرات النفاثات ليأتوا لحج بيت الله الحرام، ولزيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام والسلام على قبره عليه الصلاة والسلام، فلا ينبغي أن يكون عندنا مثل هذا الجفاء.

وبعض الناس عنده نقطة مهمة جداً، وهي الحساسية المفرطة لذكر أمر النبي عليه الصلاة والسلام، والصلاة عليه، وذكر مآثره، وذكر ما ثبت في تعظيمه، يقول: لا نريد هذه مبالغة حتى نسد باب الذرائع.

وليس الأمر كذلك، فتعظيم النبي عليه الصلاة والسلام واجب، ومحبته واجبة، ومادام ذلك قد ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وفي معجزاته من تفجر الماء من بين يديه، وانشقاق القمر، وفي خصائصه وشمائله الكثيرة المأثورة المذكورة المشهورة التي امتلأت بها صحاح كتب السنة فلماذا لا نعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟ لماذا لا نثير هذه السيرة والمواقف لتكون محبته أعظم في القلوب؟ ليس هناك من حرج ولا حساسية، وإن كان هناك من يغلو فلا يسعنا أن نسد أو نوقف أو نمنع هذه الأحاديث والأحوال ونقول: سداً لباب الذريعة! كلا.

فما ثبت لابد أن يقال ويعاد ويعلم ويشهر ويذكر حتى يكون مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته على الوجه الذي أراده الله عز وجل لنا وأراده لنا رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن أعظم الهجر والجفاء لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم الابتداع، فكل مبتدع يتلبس ببدعة يخالف بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ضرب من الجفاء، كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: افعل وهو يفعل غيره ونقيضه.

وعدم معرفة قدر الصحابة وذمهم هو ضرب من الجفاء، فكيف تدعي حب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تذم أصحابه الذين كانوا عن يمينه ويساره الذين فدوه بأرواحهم، وجعلوا صدورهم دروعاً تتلقى السهام ليذودوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! كيف يمكن لأحد أن يدعي محبته وهو يظن أو يتهم أو يشنع على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؟ كل هذا ضرب من الهجران والجفاء الذي هو من أشد وأفظع ما يرتكبه مسلم في بعده عن دين الله عز وجل، وعن مقتضى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الجفاء عدم العناية بالسيرة النبوية، وعدم معرفة الخصائص والخصال الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخصائصه عظيمة جداً أكثرها لا يعرفها الناس، ولا يقرءون ولا يعرفون أحاديثه الثابتة حتى في الأمور المادية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع تسبيح الحصى، وقال -كما في صحيح مسلم -: (إني أعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وهذا قبل بعثته، وهناك فصل كامل في محبة الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال العلماء: هي محبة حقيقة لا يعرف كنهها، وفي الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه).

فينبغي لنا أن ننتبه لهذا، وأن نكون في هذا الميدان الوسط بين الغلو والخروج عن حد الاعتدال والبعد عن الجفاء وترك ما ينبغي لرسول الله عليه الصلاة والسلام من محبة وإجلال.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم محبة رسوله في قلوبناً، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله