للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل العلم وأهله]

العنصر الأول: فضل العلم وأهله: إن الله سبحانه وتعالى قد رفع قدر العلماء فأنزلهم أعظم منزلة حين استشهدهم على أعظم شهادة -بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته- فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:١٨].

وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].

وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:٩].

وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كتابه فقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:٤٣].

وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١].

ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤].

وقد نوَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المكانة للعلم وأهله في عدد كبير من الأحاديث منها: ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

ومنها ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

ومنها ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشبًا، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).

وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالمًا أو متعلمًا).

وقال: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء)، وفي الحديث: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).

وهذه المنزلة العالية إنما استحقها حملة العلم لأنهم ورثة الأنبياء، فقد صح عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).

وقد أخرج البخاري تعليقًا ووصله ابن أبي عاصم في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلّم، وإنما الحلم بالتحلّم).

هذه المنزلة التي هي بهذه المكانة ما نالها هؤلاء إلاّ بأن الله سبحانه وتعالى قد اختارهم لائتمانهم على وحيه؛ فالوحي من عند الله ولم يكن ليجعله بدار هوان، ولن يودعه المفلسين، وإنما يختار له أهل العدالة؛ ولذلك أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).

وهؤلاء هم ورثة الأنبياء، وهم عدول كل خلف، هم شهود الله تعالى على الناس، وهم قادتهم الذين أمر الله بالرجوع إليهم عند الخلاف، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:٨٣]، ولم يقل: لعلموه جميعًا، وإنما أحال العلم على هؤلاء.

وأحال عليهم -كذلك- عند الجهل فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣].

وقد جاء في فضل حملة القرآن بالخصوص أحاديث كثيرة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته من خلقه).

وحملة القرآن هم حملة حروفه وحدوده ومعانيه، وليسوا حملة الحروف فقط.