للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغربة والرحلة]

الشرط الأول: الغربة والرحلة.

فما دام الإنسان بين أهله وذويه مشغولاً بهموم دنياه، فقلما يصفو ذهنه، أو يخلص له وقت لطلب العلم، فإذا رحل واغترب وجد وقتًا للطلب؛ ولذلك يقول أحد العلماء: سأطلب علمًا أو أموت ببلدة يقلّ بها سكب الدموع على قبرِي وموسى كليم الله لم ينل العلم الذي طلبه حتى قال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:٦٠].

والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه الوحي حتى (حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء يتحنث فيه وهو التعبد- الليالي ذوات العدد).

وقد كان كثير من أهل العلم يؤثر الغربة والرحلة في طلب العلم على ما سوى ذلك.

وقد اشتهرت الرحلة من أيام الصحابة إلى زماننا هذا: فقد رحل أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، ورحل عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد.

ثم اشتهرت رحلات التابعين بعد هذا وأتباعهم.

فهذا أمير المؤمنين في الحديث الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري دخل مدن الدنيا وقراها التي يذكر فيها الحديث على رجليه، وكان قد عمي وهو طفل في الرابعة من عمره فكف بصره، وكانت أمه امرأة صالحة؛ فكانت تتصدق وتجتهد في الدعاء -والناس نيام- أن يرد الله على ولدها بصره، فرد الله عليه بصره، واستيقظ من نومه فإذا هو مبصر، فقالت له: (إن الله رد عليك بصرك لتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخدمه) فنذر نفسه للاشتغال بهذا الحديث وحفظه، وقيظه الله لذلك، وقد رحل إلى الأمصار كلها في طلب الحديث، حتى إنه خرج من خراسان يقصد اليمن ليدرك عبد الرزاق بن همام الصنعاني، فلما وصل مكة قيل له: إن عبد الرزاق قد مات، فكر راجعًا إلى البصرة، فلما أتاها قيل: إن عبد الرزاق حي باليمن، فكر راجعًا إلى مكة، حتى لقي من شهد جنازة عبد الرزاق، وكل ذلك على رجليه! وكذلك أحمد بن حنبل ورفيقه يحيى بن معين ورفيقهما إسحاق بن راهويه، خاضوا مشارق الأرض ومغاربها في طلب الحديث وجمعه.

وكذلك المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري - قال: (كتبت بإصبعيّ هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه كان يحتاج إليّ لزدت).

والبخاري رحمه الله قد اختار صحيحه من سبعمائة ألف حديث يحفظها.

وقد ذُكر عن أحمد بن حنبل أنه كان يحفظ ألف ألف حديث بالمكرر.

وكذلك روي هذا عن أبي زرعة الرازي فقد كان يحفظ ألف ألف حديث.

وأهل العلم قديمًا يقولون: الأهل والجهل ساكنان في بلدٍ فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني